الخميس، 30 يونيو 2011

خليل قاسم كاتب "الشمندورة" المظلوم حيا وميتا.


التحقيق منشور فى جريدة البديل بتاريخ 21 أكتوبر 2007
وحصل على المركز الثانى فى مسابقة نقابة الصحفيين فرع الصحافة الثقافية هذا العام
..............................


قصة أول رواية نوبية فى الأدب العربى..
خليل قاسم كاتب "الشمندورة" المظلوم حيا وميتا.
تحقيق/ سمر نور

قبل أيام نشرت الزميلة "أخبار الأدب" تحقيقا حول الروايات المظلومة فى الأدب العربى، كانت "الشمندورة" للكاتب النوبى محمد خليل قاسم على رأس هذه الروايات، ولا يعلم الكثيرون أن قاسم كتب هذه الرواية فى أوائل ستينات القرن الماضى داخل معتقل الواحات.. حيث قضى أكثر من خمسة عشر عاما من عمره بين السجون والمعتقلات مدافعا عن انتمائه لفصائل "اليسار المصرى"، وقتها كان قاسم يجلس بعيدا عن أرض النوبة آلاف الأميال، ليكتب بأقلام "كوببه" على "ورق بفره" عن البلاد التى عاش فيها طفلا وغادرها صبيا.
فى "الشمندورة" يرصد الطفل (حامد)/ الراوى تفاصيل قرية نوبية ومعاناة أهلها أثناء بناء خزان أسوان، ورسم قاسم بعيون هذا الطفل شخصيات غاية فى العمق الانسانى، تناضل من أجل استمرار الحياة فى وجه الطبيعة والظلم والاستعمار، الغريب أن هذه الرواية-رغم طزاجة موضوعها وقيمتها الفنية- لم تلق ما تستحقه من دراسة ونقد وترجمة وتواجد، كما لم يلق صاحبها ما يوازى دأبه ونضاله وموهبته وحلمه.
هنا اضاءة تقدمها "البديل" حول هذه الرواية وكاتبها، على أمل أن تلفت انتباه مؤسساتنا الثقافية لأهميتها، لتنصف كاتبها وترفع الظلم الذى وجده حيا وميتا.
....................................
تتلاقى حياة الطفل الراوى فى "الشمندورة" مع طفولة محمد خليل قاسم فى الكثير من الجوانب، ولد قاسم فى منتصف شهر يوليو عام 1922 وعاش طفولته بإحدى قرى النوبة القديمة معاصرا لمرحلة مصيرية فى حياة أهالى النوبة، كما كان الراوى/ الطفل حامد فى الشمندورة.. وفى مقدمة الطبعة الثانية من الرواية يحكى د. رفعت السعيد عن طفولة قاسم رفيقه فى المعتقل، واصفا جلسة القرفصاء الذى اعتاد قاسم أن يجلسها وهو يحكى عن طفولته وصباه ( الأب تاجر صغير فى قرية قته، وتجار الفقراء هم أيضا فقراء، فزبائنه لا يملكون نقودا، فمن أين تأتى النقود إلى قرية نوبية) يتساءل السعيد قبل أن يصف مناخ تلك السنوات الذى يسوده القلق والتوجس من بناء خزان أسوان، والأحاديث المتداولة عن التعويضات المجحفة والأراضى التى سيغرقها الطوفان.
فى مرحلة أخرى بدأ الطفل (محمد) يساعد والده فى العمل ويتأمل الأوضاع القائمة ويختزن حكاياته.. يحكيها أقرب أصدقائه سيد اسحاق مما سمعه على لسان صاحب الشمندورة (النوبيون جميعا كانوا من طبقة فقيرة فبلاد النوبة هى الأرض الوحيدة فى مصر التى لم يكن بها يوما إقطاع.. كان والده مصرا على إدخاله الأزهر باعتباره الطريق الأكثر ضمانا بالنسبه لأبناء القرى، وكان محمد مصرا على التعليم المدنى)، لهذا السبب التحق قاسم بمدرسة قرية عنيبة الداخلية وحصل منها على الابتدائية ثم التحق بمدرسة أسوان الثانوية، وهناك شارك لأول مرة فى مظاهرات ضد الانجليز وكان لديه تعاطف مع الوفد.. ومن هناك إلى الأقصر حيث عاش مع أخته الصغرى وامتحن الثقافة العامة فى قنا، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية سافر إلى القاهرة، ليواصل حلمه الذى بدأ من قريته الصغيرة وانتهى إلى العاصمة.. استكمال دراسة الشهادة التوجيهية والالتحاق بجامعة القاهرة(فؤاد الأول آنذاك) .
لم يكن قاسم يعرف أن الحلم سيتبدل ويتجاوز أسوار الجامعة كما تجاوز من قبل أسوار القرية.. ولم يكن يعلم أنه سيعيش فى معتقلات المدينة وسجونها أكثر مما عاش فى بيوتها وشوارعها!مصر الأخرى
بدأ قاسم مشواره فى العاصمة من حى مصر الجديدة.. وبالتحديد عزبة البستان التى يصفها فى مذكراته بعد خروجه من المعتقل قائلا: (استقبلونى فى كل بيت بالترحاب ثم تجولت قليلا فى شوارع مصر الجديدة.. فى شارع معين بالذات.. شارع الذكريات.. وأى شارع وأى طريق فى مصر الجديدة لا يثير الذكريات.. هنا كنا نتواعد ونتوقف.. نشترى الخضار.. ومن هنا كنت اشترى الورد"لها"...... كم مرت فيك يا مصر الجديدة من ذكريات.. وحسبنا من هذه الكلمة.. أنها مزيج من العذاب والسعادة.. سعادة لا تترك بعض أجزائها إلا مشقة فى القلب)، بدأ محمد خليل قاسم حياته فى هذا المكان.. حيث تجمع النوبيون الذين هاجروا إلى القاهرة للعمل أو التعليم أو هربا من الفيضان والتهجير إلى أراضى لا تشبه أراضيهم القديمة.. من هناك بدأ المعارك النضالية والجامعة والمظاهرات والاعتقالات والحب، التحق بمدرسة القبة الثانوية فى السنة الخامسة قسم أدبى ثم بكلية الحقوق جامعة عين شمس، وبدأ يقرأ الكتب السياسية والأدبية.. وبدأت مع قراءاته رحلة البحث بين النظريات والمذاهب المختلفة.
عاشت القاهرة فى أربعينيات القرن العشرين حالة من الزخم السياسى، لا يمكن أن تترك شابا مثل محمد خليل قاسم، دون أن يدخل معتركها ويخوض خبراتها.. قبل أن يختار طريقه ومنهجه.
مكان آخر شكل وجدان وعقلية محمد خليل قاسم، هذا المكان هو شارع إبراهيم باشا حيث مقر النادى النوبى العام آنذاك.. عن هذه الفترة يقول د. رفعت السعيد فى مقدمة الطبعة الثانية من رواية الشمندورة (كان الفتى قد انغمس هو وصديق صباه زكى مراد وسط أندية النوبيين المنتشرة فى أرجاء القاهرة الفقيرة، واستطاعا أن يجعلا منها مسرحا لأنشطة ثقافية وفكرية وأدبية وسياسية متألقة، بعد أن كانت جدرانا جافة لا تستقبل إلا المأتم والأفراح النوبية، وامتلأ الوجدان بصخب الفعل السياسى وضجيج الأداء الثقافى والفكرى المتميز.. هناك كان شيوعى متوهج، لا يكف عن الحركة وعيناه اليقظتان قادرتان على التقاط كل من يحملون قلبا يخفق بحب الفقراء، والتقى بهذا الشيوعى المتوقد حماسا "عبده دهب" واصبح أيضا شيوعيا..)
يحكى سيد أسحاق عن تلك الفترة قائلا: (تعرف على مجموعة النوبيين اليساريين فى نادى النوبة العام.. والذى لعب دور فى إدخاله هو وغيره فى الحركة السياسية هو عبده دهب النوبى السودانى الذى كان يعمل فى النادى الايطالى حيث تعرف على يساريين إيطاليين ، وبدأ ينشر هذا الفكر بين النوبيين فى القاهرة والاسكندرية)..
بعد فترة من القلق الفكرى قرر قاسم ترك دراسة الحقوق والتحق بكلية الآداب لارضاء الشاعر بداخله.. وكتب قصائد ثورية عامى 46،47 لكنه ترك الدراسة والشعر وانخرط فى الأحزاب اليسارية فى مواجهة الاستعمار الانجليزى، وفى عام 1947 خاض معركة جديدة ضد الحركات الانفصالية التى كانت تدعو لانفصال النوبة عن مصر، وانضم للحركة المصرية للتحرر الوطنى وكان من أشهر كوادرها.. وتبنى من خلالها دعوة لأن تخوض مصر والسودان "الكفاح المشترك ضد العدو المشترك" ممثلا فى قوى الاستعمار.. وانتهت هذه المرحلة من نضاله بمحاكمته عسكريا عام 1948 ليظل فى السجن حتى عام 1953.
مع خروجه من السجن بدأت مرحلة أخرى من العمل، بعد ثورة يوليو، فبالأمس كان الجميع ضد الاستعمار.. وكان هناك تعاون بين الضباط الأحرار والحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى (حدتو) والتى انتمى إليها قاسم، حتى أن بيانات الضباط خرجت من مطابع حدتو.، وبعد الثورة حدث هذا الانقلاب ضد الشيوعيين والأخوان المسلمين معا، وواجه الضباط الأحرار كافة التيارات السياسية بقبضة من حديد، فى هذه الفترة أصبح قاسم مطاردا من جديد كقيادى فى حركة (حدتو) وظل يهرب من مخبأ لآخر، وقد استضافه الكاتب الكبير يوسف إدريس بعض الوقت فى بيته.. كل هذا لم يمنع اعتقاله حيث قضى عقوبة السجن لمدة عشر سنوات فى السجن الحربى فيما سمى بقضية 64 عام 1954، ثم إلى سجن المحاريق بالواحات الخارجة حيث حشد فيها أعضاء تنظيم (حدتو) عام 1959 ومن بينهم محمد خليل قاسم.. ثم اجتمع شمل كافة التنظيمات الشيوعية والمتعاطفين معها فى أعوام 1960، 1961، 1962 داخل سجن الواحات هذا السجن الذى لم يغادره قاسم إلا عام 1964، وهو نفسه الذى شهد انجاز رواية (الشمندورة).
يقول د. رفعت السعيد عن علاقة قاسم بالمعتقلين (اكتشفت أن لغتى العربية ركيكة، نصحنى أن أقرأ وأن أحفظ الشعر، وقرأنا معا دواوين عديدة وحفظنا قصائد طويلة، قرأ معى القرآن مرات، ثم اكتشف أن حصيلتى من الانجليزية محدودة، جلس معى ساعات طويلة نقرأ ويصحح بلا ملل... باختصار كان رجلا يجيد صناعة الكوادر....)
.........................................................................
الخالة عيشه ابنة الناظر
يشهد رفاق (قاسم) أنه كان على علاقة طيبة بجميع الاتجاهات والفصائل داخل المعتقل، ولكن المثير للانتباه هو علاقته بسجانيه كما يرويها الكاتب الكبير صلاح حافظ فى ملف أدب ونقد –العدد 48 يوليو 1989 فكتب (تصادف يوم وصولنا المعتقل صدور قرار يقضى بفصل أى موظف فى الدولة لا يعرف القراءة والكتابة، وكان تسعون فى المائة من السجانين الذين يحرسوننا من هذا الطراز..) وهؤلاء كان يجب ان يتعلموا فى ثلاثة أشهر فقط قبل سحب طاقم السجانين واستبدالهم، وبالفعل قام المعتقلين بمحو أمية سجانيهم واشتهر الأمر فى كافة المعتقلات، حتى أن السجانين كانوا يطلبوا نقلهم إلى معتقل الواحات من أجل الحصول على دروس محو الأمية، وفى هذه التجربة المثيرة كان محمد خليل قاسم هو (ناظر) هذه المدرسة كما لقبه السجانون.
يكمل صلاح حافظ (الكراريس والأقلام كان السجانون يحملونها معهم يوم ترحيلهم إلى معتقلنا.. والسبورات صنعناها من أخشاب الصناديق القديمة، والمعلمون كانوا منا، وجدول الحصص ونظام المدرسة تولاه الراحل النوبى محمد خليل قاسم.. صاحب رواية الشمندورة التى لم يعترف بها الوسط الأدبى فى مصر إلا بعد وفاته.) وكان السجانون يتلقون شهادات محو أمية فى احتفال يلقى فيه حضرة الناظر-المعتقل كلمة، لينقذ المعتقلون سجانيهم المساكين من الطرد من عملهم ومن الجهل معا!
ويحكى رفيقه سيد أسحاق عن المرحلة نفسها قائلا: (كان قاسم منظرا سياسيا فذا، أفكاره السياسية والفكرية سباقة، وفى نفس الوقت كان متواضعا جدا وكان يعطى أكثر من أى شخص.. قاسم كتب بحث عن القومية العربية ولم أقرا مثل تحليله وربطه القومية العربية بجانب اللغة والاقتصاد والدين، واعتبر القرآن كسمة أساسية للقومية، وهذه الكتابات دفنت فى المعتقل وربما تعلم منه محمد عماره الذى كان متخصص فى هذا الوقت فى مجال القومية العربية قبل أن تتبدل اتجاهاته السياسية ، وترجم كتب عن النظريات والفلسفة ومعظم هذه الكتابات سلمت لدار الثقافة ولم تظهر.. كما ترجم عن تاريخ تطور المجتمعات والقوانين الأساسية للاقتصاد الرأسمالى مع بعض رفاقه فى السجن، وأيضا كتاب حركة التحرر "شرق أفريقيا" ).. وتوج كتاباته بأعمال أدبية فأصدر الديوان الأول تحت عنوان (قصائد مصرية) مع زكى مراد وكمال عبد الحليم ومحمود توفيق ومعين بسيسو.. وديوان (سرب البلشون .. مجموعة من الشعراء النوبين بالمشاركة مع الشعراء محمود شندى وذكى مراد وعبد الله طه وعبد الدايم طه وإبراهيم شعراوى.. وكانت مجموعته القصصية الأولى بعنوان (الخالة عيشه)، ونشرتها دار الثقافة الجديدة فى الستينات بعد روايته الوحيدة (الشمندورة).
ويضيف سيد أسحاق (جمع قاسم جميع النوبيين الموجودين فى المعتقل، وكانوا حوالى عشرين نوبيا منهم زكى مبارك ونور سليمان ومحمد شريف وسيف صادق وغيرهم.. كان مسئول سياسى ومضحى من الناحية الانسانية، يتنازل عن القليل الذى يملكه لغيره، وحين أخذ قرار بناء السد العالى أجتمعنا فى سجن الواحات وعملنا دراسة بكافة البنود الأساسية للموضوع.. من مكان السد العالى وخطورة الرؤية المستقبلية وأوردنا ان هناك خطورة استرتيجية فى نزع هذه المنطقة فيمكن أن يحدث أى نوع من الاعتداء والاستيلاء من الجنوب، يمكن أن يأتى استعمار للسودان أو حكومة أخرى معادية لمصر، أى أنه من الناحية العسكرية والاجتماعية لابد من اعادة النظر فى كيفية تهجير النوبيين، وقلنا يمكن أختيار ثلاث مناطق لن تغرق، واستيعاب كل النوبيين فيها وتعميرها صناعيا وزراعيا بدلا من التهجير.. لم ينشر أحد بياننا فى الجرائد المصرية إلا أحمد بهاء الدين..) وكما هى العادة، لم تستمع الحكومة المصرية لنداءات المعتقلين السياسيين بالطبع، كان محمد خليل قاسم آنذاك قد بدأ كتابة الشمندورة، وربما كان لبناء السد العالى آثره فى استدعاء طفولته التى عاشها فى قريته النوبية أثناء بناء خزان أسوان..
الأديب يحى مختار أكد لنا أنه عرف الكثير من تفاصيل تلك المرحلة من لسان خليل قاسم شخصيا، وروى له حكاية تلك الرحلة التى نظمتها له مباحث أمن الدولة فى شوارع القاهرة قبل كتابة الشمندورة، دخل قاسم ميدان التحرير فوجد تغيرات حادة فى كل تفاصيله.. بعد أن كان أشبه بصحراء لا يوجد بها سوى مبنى وزارة الخارجية والمتحف المصرى ومبان على الطراز الإيطالى... قبل أن يصبح ميدانا مكتظا بالناس بعد بناء مجمع التحرير..
كان الهدف كما يقول مختار إشعاره بسنوات عمره التى مرت عليه وهو قيد الاعتقال، الغريب إنهم نقلوه بعد ذلك إلى مباحث أمن الدولة وطالبوه بالتوقيع على استنكار لكل أرائه السياسية حتى يحصل على العفو، وشأن مناضلين آخرين رفض قاسم كتابة "الاستنكار" فاعيد إلى المعتقل بمرارة وحسرة سنوات العمر التى مرت وبدت آثارها على المدينة التى تبدلت تماما بعد الثورة، ويعتقد يحى مختار أن هذا هو السبب الأساسى فى كتابته الشمندورة.. رغبة الكاتب فى التمسك بالجذور فى وجه التبدل والتغير والظلم والاستبداد، نفس الجولة التى أشار إليها سيد أسحاق فى كتابه (البحث عن الشمندورة) واعتبرها قد تمت بعد كتابة رواية الشمندورة.
لا تقل عن الثلاثية وعودة الروح
لكن المؤكد أن قاسم بدأ العمل على كتابة روايته عام 1961، وكما يشير سيد أسحاق فأن الفنان حسن فؤاد والكاتب صلاح حافظ والفنان زهدى وعلى الشلقانى والكاتب ألفريد فرج كانوا يشاركون بملاحظات أفادت قاسم وهو يعيد الكتابة بإضافات جديدة بمنتهى الصبر، ويجود فى عمله رغم صعوبة الكتابة على ورق البفره..
اللافت أن المعتقلين فى العام 1959 اسسوا دار نشر (الثقافة للحياة) تحت إشراف الفنان حسن فؤاد، وكان هناك مسئولون عن نسخ الأعمال التى يكتبها المعتقلون مثل أحمد عبد العليم وفكرى قوره ويصدرونها فى كتاب مجلد ويتم توزيعها على المعتقلين، ومن ضمن هذه الاصدارات كتاب "الشمندورة" لمحمد خليل قاسم، والذى قام حسن فؤاد برسم غلافه على قطعة قماش وهو يعلق بكلمات عن المؤلف.. لكن كل ما كان يكتبه قاسم على ورق البفره كان يهرب إلى خارج المعتقل من خلال زيارات المعتقلين، وقامت السيدة ليلى الشال التى كانت زوجة لرفعت السعيد رفيق المعتقل آنذاك بهذا الدور.. وبعد خروج حسن فؤاد من المعتقل ساعد على نشر الشمندورة لتصدر على حلقات مسلسلة فى مجلة صباح الخير الأسبوعية قبل أن تنشر الرواية فى كتاب.. وتستوقف جيلا كاملا من الكتاب.

عن هذا يقول الأديب سعيد الكفراوى إن الشمندورة لفتت الانتباه وقت نشرها على حلقات بمجلة صباح الخير، لأنها قدمت مادة شديدة المحلية، واستطاع قاسم من خلال هذا الشخصيات النوبية وعلاقتها بالمكان والزمان الاستثنائى أن يطرح أسئلة جديدة على الرواية العربية، وأضاف: (كنا جميعا نتجه نحو التجديد فى الكتابة واللغة ونستفيد من المنتج الغربى ومن الواقع المتاح، لكن قاسم استوحى الواقع النوبى ليقدم تجربة ثرية أحدثت رد فعل إيجابى لدى المتابعين فى الستينيات على مستوى النقد والقراءة، لكن رغم قيمتها التى لا ينكرها أحد فقد ظلمت تاريخيا، فلم تدخل فى سياق الروايات المؤسسة فى الأدب العربى كما كان جدير بالنقد أن يفعل.. فهى لا تقل قيمة عن (عودة الروح) لتوفيق الحكيم، أو (ثلاثية) نجيب محفوظ، أو (رامه والتنين) لأدوار الخراط، أو (تلك الرائحة) لصنع الله إبراهيم، فى الابداع الغربى يمكن لعمل واحد أن يحقق المجد لصاحبه ويجعله جزء من ذاكرة الابداع الانسانى، لقد نظرت أنا وغيرى من الكتاب مثل الراحل محمد مستجاب وإبراهيم عبد المجيد وغيرهم من الأدباء ذوى الأصول غير القاهرية إلى هذه الرواية، باعتبارها رواية العوالم المحلية وتأسيس لأدب نوبى له مذاقه وأدواته ليخرج من عباءة قاسم إبراهيم فهمى وإدريس على ويحى مختار وحجاج أدول وحسن نور.. تيار يثرى الرواية المصرية ويشكل تعددية أدبية.. وكانت الشمندورة ومازالت نغمة أساسية فى الرواية المصرية)..
سحر العمل
حين فكر الأديب خيرى شلبى فى الاعداد لكتاب عن شخصيات من الأدب المصرى المعاصر قرر أن يبدأ بشخصية (داريا سكينه) إحدى شخصيات رواية الشمندورة ويقول عن ذلك (قرأتها فى الستينيات مسلسلة بمجلة صباح الخير، وبعد صدورها فى كتاب قرأتها عدة مرات وتأثرت بها، وكانت شخصية "داريا سكينه" هى الأكثر حضورا بالنسبه لى فى الأدب المصرى المعاصر، فحضورها يتجاوز نطاق الورق ويكون كيان قائم بذاته، لدرجة أننى توهمت وجود علاقة بينى وبين هذه الشخصية ولم استطع نسيانها، وكتبت عنها كتاب كامل فى أطار سلسلة من الكتب كان من المفترض اصدارها عن شخصيات من الأدب المصرى المعاصر لكنى لم أكمل السلسلة فلم أجد فى الأدب العربى المعاصر شخصية تماثلها فى ثراءها وتفردها.. واعتبر أن الشمندورة من أعظم روايات القرن العشرين وفى صدارة الأعمال المكتوبة باللغة العربية .. وعدم تقلدها المكانة الحقيقية لها دلالة على وجود خلل فى الحياة الثقافية المصرية والعربية..).
يخرج محمد خليل قاسم من المعتقل عام 1964 مع كل المعتقلين والمسجونين الشيوعيين، كانت شهرة الشمندورة قد سبقته فى الوسط الثقافى، كان فى أوائل الأربعين من العمر بلا عمل أو سكن.. تواجهه مشاكل أسرته الفقيرة والتغيرات فى الحياة السياسية والحزبية والتى دعت لحل الأحزاب الشيوعية والتخلى من جهة، والاندماج مع التنظيم الطليعى بقيادة عبد الناصر من جهة أخرى ليذوب المعارضين فى السلطة! ..
ويروى الأديب يحى مختار عن هذه الفترة (كانت أخته تؤجر غرفة واحدة فى بيت ابنة خالتى بحى عابدين، ولأن قاسم لم يكن له مقر بعد خروجه من المعتقل أتى للاقامة مع أخته.. لم يكن هناك أثاث فى الغرفة بخلاف سرير وكرسى واحد، وكان قاسم يتكأ على بطنه فوق السرير يقرأ أو يكتب أغلب الوقت، لم يكن يدخن وكان قليل الأكل ولم يشتكى من المرض رغم تكالب الأمراض عليه...).

الخروج إلى الموت
خرج قاسم من المعتقل بقائمة أمراض، ولم يمنعه ذلك من تحمل مسئولياته ومواصلة حياته ونشاطه الأدبى.. وتم التفكير فى عمل ندوة أدبية فى النادى النوبى العام فى شارع إبراهيم باشا بالقرب من مسرح الجمهورية، نفس المقر القديم الذى بدأ منه قاسم نشاطه فى الاربعينيات، ظلت هذه الندوة تقام بصورة دورية منتظمة وكان لها تأثير واسع حتى أن كل أدباء جيل الستينيات ترددوا عليها مثل عبد الرحمن الأبنودى ويحى الطاهر عبد الله ورؤوف مسعد وغيرهم، يقول الأديب حسن نور عن هذه الندوة (كان محمد خليل قاسم يقيم ورشة كتابة للأدباء النوبيين الشباب، وكنت أتردد عليها وكذلك على الندوة الأسبوعية التى أقامها فى النادى النوبى العام، يقوم بتوجيهنا ومناقشة أعمالنا فى حضور أدباء كبار أمثال يحى الطاهر وأمل دنقل، واعتبرت هذه الندوة أفضل ندوات الستينيات الأدبية .)..
وكان له جهده الخاص فى الترجمة بدار الثقافة الجديدة وحصل على وظيفة مترجم بسفارة ألمانيا الشرقية، واهتم باعطاء دروس فى اللغة الانجليزية للطلبة النوبيين الفقراء، كان عمله الجديد قد كفل له استئجار شقة انتقل فيها مع أخته واخيه وبدأ يفكر فى تأمين حياة أسرته وفى الزواج وتكوين أسرة.. وعن علاقته بعائلته وأهالى النوبة يقول يحى مختار (محا الصدى الذى احدثته الرواية كل التحفظات التى كانت لدى النوبيين ولدى أفراد أسرته تجاهه، خاصة مع الترويج لاتهامات جاهزة ضد الشيوعيين تمس قناعات البسطاء الدينية ..
كان الكاتب محمود الشوربجى قد حول الشمندورة إلى مسلسل إذاعى فى إذاعة صوت العرب ركن وحى الجنوب، يبدأ المسلسل بأغنية الشمندورة بصوت الفنان النوبى (عبد الله باطا) والتى غناها الآن الفنان محمد منير واشتهرت بصوت.. وكان النوبيون يتجمعون حول الراديو لسماعه.) ويضيف سيد أسحاق عن ذلك (النضال الوطنى لم يأخذه بعيدا عن الهم النوبى، فعبر عن الواقع والمرارة النوبية من خلال الشمندورة وهو معتقل أى أنه لم ينس النوبة فكان معبرا عن الوطن بأسره.. وكان لديه خطة مستقبلية لعمل أجزاء للشمندورة ليترك ثلاثية(الشمندورة-الطوفان –بعد الهجرة).. بدأ فى كتابة الجزء الثانى بعنوان الطوفان على حلقات مسلسلة للإذاعة، وبالفعل أذيع منه 23 حلقة فقط ولكنه توفى قبل اتمامها فتم استكمال السبع حلقات الناقصة بأشعار لزكى مراد، والذى كتبه لم نستطع استرداده حتى هذه اللحظة ولا استطعنا أحضار التسجيل الخاص بالشمندورة والطوفان من الإذاعة..)
كان يعد كل شئ لبدأ حياته كمواطن عادى وينتظر زفافه خلال أسابيع حين عاجلته أزمة قلبية مفاجئة انهت حياته فى 10 يونيو 1968 وهو لم يكمل عامه الثامن والأربعين، ولم يكمل بعد مشاريعه الشخصية والأدبية، خرجت جنازته من مقر النادى النوبى العام الجديد بميدان التحرير الذى اختاره المحامى المناضل "زكى مراد" رفيق رحلة محمد خليل قاسم مكانا لتشييع جثمانه.

الشمندورة المنسية
فى حفل تأبينه الذى اقامه رموز اليسار قدمت عدة توصيات من أجل الشمندورة وصاحبها لم تنفذ حتى الآن! فلم تخصص جائزة سنوية تحمل اسمه، ولم تصدر طبعات جديدة بعد الطبعة الثانية التى اصدرتها أدب ونقد ونفذت تماما، بل لم تترجم تلك الرواية الفذة رغم الاتجاه لترجمة الكثيرين من الأدباء النوبيين.. توضح الكاتبة فريدة النقاش رئيس تحرير جريدة الأهالى ( السبب الأساسى فى كل هذه التلكأ فى تنفيذ توصيات حفل التأبين هو عدم وجود المال اللازم، أما عن الترجمة فربما هناك بعد ايدلوجى فى عدم ترجمة عمل عظيم لمناضل شيوعى مثل محمد خليل قاسم، ترتبط بالتوجهات الامريكية والأوروبية.. فلا يترجم عمل يعد من كلاسيكيات الأدب العربى مثل الشمندورة بينما أعمال الأديب حجاج أدول "الداعية الأكبر" للدفاع عن النوبة -كما يشاع- هى الأكثر ترجمة!)..
ورغم تعبير الكثير من المخرجين الكبار أمثال يوسف شاهين وعلى بدرخان عن رغبتهم فى إخراج هذا العمل سينمائيا إلا أن هذا لم يتم، ولم يقدم أيضا مسرحيا رغم الاتجاه لتقديم أعمال إدريس على ويحى مختار على خشبة المسرح وهو ما يوضحه المخرج المسرحى ناصر عبد المنعم الذى قدم هذه الأعمال على خشبة المسرح (الشمندورة هى المصدر الرئيسى للأدب النوبى لكنها عمل ضخم فى مساحته الزمنية وشخصياته وخطوطه الدرامية، لكنه مازال حلما يساورنى فدائما كانت الشمندورة فى ذهنى واستفيد من قراءتى لها أثناء إخراج أعمال أخرى عن البيئة النوبية، لكن عملا مثل ذلك لابد أن تنتجه مؤسسات الدولة لكن الدولة لا تنتج أى شئ له قيمة، وأعتقد أن صاحب الشمندورة لن يلقى اهتمام الدولة المصرية كمناضل شيوعى ضد السلطة، لكنى أتصور أنه قد آن الآوان ليسترد هذا الرجل مكانته، خاصة أن صندوق التنمية الثقافية يتبنى مشروعا الآن لإنتاج أفلام ضخمة وليس هناك عملا أكثر استحقاقا لإقامة مشروع ضخم، يوازى ضخامة التجربة الروائية، أكثر من شمندورة قاسم.

هناك تعليق واحد: