و يكاد القسم الأول من الروايه ان يتشكل_كما سبق أن ذكرنا_ من لوحات مختلفه متنوعه،تعبر كل لوحه منها علي جانب من جوانب حياة هذه القريه النوبيه.
و لا سبيل لمتابعه تفصيليه لفصول الروايه في قسمها الأول و لهذا نكتفي بالإشاره إلي بعض عناصر هذه الفصول.فالفصل الأول يكاد ان يكون مقتصرا علي تقديم عائلة الراوي الصغير تقديما يمهد لفصول أو للوحات في فصول أخري مثل فصل الإحتفال بزواج أخته و في الفصل الثاني نتعرف علي أطفال القريه في رحلة ذهابهم اليومي إلي كتاب الشيخ طه. و في الفصل الثالث نتعرف علي حسن المصري الصعيدي الهارب من جريمة قتل،كما نتعرف علي مختلف علاقاته النسائيه في القريه و دوره الفعال في خدمة أهالي القريه.و في الفصل الرابع نلتقي ببعض العئدين من القاهره حيث يعملون،يحمل بعضهم أخبارا عن الأزواج او الابناء الذين لم يعودوا بعد.و الفصل الخامس هو فصل جمع الثمار و الفصل السادس و السابع هو فصل دفع الديون للمتجر الذي يملكه الشيخ أمين والد حامد الراوي و مايدور خلال ذلك من مساومات و اختلافات بهذا الشأن و الفصل الثامن هو فصل الموسم الكبير موسم البلح حيث يأتي تجار غرباء للشراء.و هو فصل زاخر بالأحاديث السياسيه و الإجتماعيه و في هذا الفصل يثار موضوع التعويضات عن الفيضان و عن ضآلة هذه التعويضات .و في هذا الفصل يأتي مدير مصلحة المساحه علي راس وفد لتسجيل الأطيان و النخيل الخاص بالأهالي. و الفصل العاشر هو فصل حجويه الزوجه الثانيه لوالد حامد الراوي و هي تعاني حالة ولادة متعسره.و الفصل الثاني عشر هو فصل فرقة أبو رحاب بطبها و راقصيها،وفي هذا الفصل تقول فكيهه الغجريه قارئة الرمل لحامد انه سيقف ثلاث مرات أمام المحاكم و هو مايتحقق بالفعل في حياة المؤلف محمد خليل قاسم بعد ذلك! و في الفصل الخامس عشرلقاء حامد مع مصطفي الذي يدرس في مدرسة عنيبه و تطلع حامد ان يشاركه في ذلك متخليا عن الذهاب الي الازهر كما يريد له والده.و في الفصل السادس عشر نجد داريا و أبنتها شريفه و هما اكثر القريه فقرا و تعاسه تعملان في الزراعه في غيبة أبن داريا جمال في مصر و استقراره بها و زواجه من مصريه.أما الفصل السابع عشر فهم موسم شهر الصوم شهر رمضان و عاداته المختلفه من عبادات و أطعمه و طقوس و في هذا الفصل تأتي أخبار عن مظاهرات في مصر ضد صدقي باشا. و في الفصل الثامن عشر نحتفل بليلة القدر وفي الفصل التاسع عشر نحتفل بالعيد و نزور قبور أمواتنا و في الفصل العشرين أخبار عن جريدة الأهرام حول تقديرات حكومة صدقي باشا للتعويضات و حول أزمة البطاله و محاكمة عمال العنابر مما يبرز الجانب السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي. و في الفصل الحادي و الثاني و الثالث و الرابع و العشرين تفاصيل حفل زواج شعبان بأخت حامد و طقوس تعميد العروسين في النيل و طقوس الزواج عامة و بخاصه الرحله الي مقام الشيخ شبيكه للتبرك بعتباته و مع هذا الفصل يكاد ينتهي القسم الأول من الروايه الذي يقدم لنا لوحات متنوعه للواقع التراثي و الاجتماعي لقريه نوبيه في انحائها المختلفه. و ان كنا نحس كما اشرنا من قبل بداية خطر الفيضان المقبل و ظلم و اجحاف التعويضات التي قدرتها لاهالي القريه حكومة صدقي باشا المستبده.
و لعل هذا القسم ان يكون لامجرد تسجيل لواقع اجتماعي تاريخي ثقافي لهذه القريه النوبيه إنما هو بهذا التسجيل نفسه يعد تمهيدا واقعيا تقريريا لابراز فداحة و عمق المحنه التي سوف تتعرض لها القريه النوبيه و التي سوف تكرس لها الروايه فصولها التاليه.علي ان هذا القسم الأول من الروايه لايقدم لوحاته الاجتماعيه علي هذا النحو التجريدي المسطح الذي عرضته و انما يعرض لها في حياتها و تجاربها و طقوسها و عاداتها و اعرافها و علاقاتها و حكاياتها و أساطيرها و مشكلاتها و افراحها و مباهجها و قصص الحب المختلفه كمجتمع متسق متجانس ملتحم موحد رغم فقره و تخلفه و مآسيه الصغيره.
و مع الفصل الخامس و العشرين تبدأ مرحله دخول الروايه شعوريا وسلوكيا و عمليا في الدراما الحاده لمرحلة الطوفان. ولهذا تبدأ الفقره الاولي من الفصل بتواتر الأحاديث في القريه عن التقديرات الكجحفه للتعويضات و هنا تبدأ عملية كتابة عرائض الاحتجاج،يكتبها المأذون أو بدر أفندي أو المحامي و تقرأ العرائض علي الناس علي المصاطب و في الساحات ثم يوقعونها ثم ترسب إلي المسئولين في القاهره.
و نلاحظ في هذا الفصل و في أغلب الفصول التاليه أختفاء الراوي الطفل و ينتهي هذا الفصل بحجز بعض الذين وقعوا هذه العرائض في سجن المركز في الدر و في الفصل الثاني تنتقل بنا الروايه إلي قلب أحداث المقاومه في القاهره حيث نلتقي بالنوبي المناضل حسين طه الذي يخطط لإغتيال صدقي باشا إنتقاما لمعاملته المجحفه للنوبين و هكذا تتحول الروايه من حالة الوصف و التسجيل إلي حالة الغليان و التوتر و الاحتجاج و المقاومه و النضال دون أن نفقد الخيط المتصل لبعض أحداثها الإجتماعيه و العاطفيه مثل عشق مرعي لشريفه و علاقة بسطاوي بسعديه ثم مرض شريفه مرضا يكاد يعرضها للموت.قد يبرز الأنا الراوي أحيانا و لكن بشكل عابر.ذلك أن الروايه انتقلت في معظم أحداثها إلي السنة ابناء القريه و الي الكاتب المتضمن في الروايه أو إلي لسان الجماعه(نحن) .و تتعرض القريه في فصل من فصولها لمجاعه حاده و تكتفي الدوله بمواجهتها ببضعه أطنان من الدقيق الاسترالي الذي لايغني شيئا و لا يسد حاجه و ما ان تنتهي المجاعه حتي يبدا هجوم الجراد الذي يقاومه الأهالي مقاومه باسله.و ما ان ينتهي الجراد حتي تقترب ساعة الطوفان و هنا تبرز بقسوه مسالة التعويضات و الموقف منها .ما العمل؟ هل تقبل القريه ماتعرضه الحكومه ام ترفض و تقاوم!؟ و في هذه المرحله يبرز وجه جديد غلي جانب الوجوه البارزه الأخري.إنه أحمد وابور و هو مايمكن ان يكون رمزا أو نموذجا للعامل الصناعي(في حدود الإحتياجات الصناعيه للقريه) في معركة المقاومه و يرتفع شعار مقاومه التعويضات و رفض استلامها و تتشكل جبهه لها و لكن هذه المقاطعه لاتحولها الروايه بشكل مثالي غلي بطوله مطلقه فسرعان ماتخف شيا فشيئا حتي يتم الاستسلام في النهايه لما تفرضه الحكومه.يتراجع أهل القريه واحدا بعد الاخر بتاثير من واقعهم المتدني و ضآلة نقودهم و ماتركه الجراد في زراعاتهم فضلا عن سوء المحصول و انخفاض أسعار البلح غلي جانب المجاعه و يبدأ أهالي القريه يهاجرون إلي الضفه الاخري من النهر لإرتفاعها عن مستوي الفيضان المتوقع .أخذوا يفككون بيوتهم و يحملون ابوابها و مايمكن ان يحتاجوه منها. وهكذا أخذت القريه تتحول من الوحده المتماسكه الملتحمه التحاما حميما مكانا و تاريخا و ناسا و مباني و تراثا التي أبصرناها خلال لوحات القسم الاول،أخذت هذه القريه تتفكك "كل شئ أخذ ينهدم .السواقي،الشواديف،جدران البيوت،الحظائر و كل شئ أخذ يتلاشي"(ص364) و تشحن البقايا الصالحه الي الضفه الاخري من النهر في مواجهة صعوبات و اخطار و تضحيات كبيره و كان مرعي و وابور و شباب القريه يحملون العبء الاكبر بشكل جماعي متفان و سرعام مااخذت امواج الطوفان تتدفق تحاصر كل شئ ثم سرعان مااخذت تغيب فيها القريه بأكملها،باشجارها و قبورها و بقايا جدرانها و علي وجه الماء أخذت تعوم أكفان بيضاء!
لعل هذه الصفحات التي عبرت بها الروايه عن ابتلاع المياه للقريه ان تكون من ابدع صفحات الروايه بل و من ابدع الصفحات في أدبنا العربي المعاصر كله.
و هكذا انتقلت حياة القريه الي الضفه الاخري الجرداء الميته لتبدأ مرحلة بعث جديد في مواجهة أخطار و أزمات من نوع مختلف.لعل كان من أشدها و أقساها إندلاع الحريق الذي اتي علي اغلب ماحملته ايدي الاهالي من قريتهم التي اغرقها الطوفان فضلا عن ندرة المياه و صعوبه الحصول عليها من باطن الارض و يبدا الاستقرار القلق المأساوي في هذا الموقع الجديد و لكن لايتوقف الاهالي عن المطالبه بحقوق جديده و تبدأ حملة العرائض من جديد بغسم "منكوبي التعليه الثانيه" يطالبون فيها با يتيح لهم مواجهة الصحراء التي تحيط بهم من كل جانب. و الروايه لاتنتهي بنا عند هذا الحد بل يبدا مايشبه التذييل الاخير.في هذا التذييل الاخير تنشغل الروايه بمسألة سفر حامد الراوي الذي كبر مع الاحداث ليتعلم في المدرسه الابتدائيه في العنيبه و تنجح عريضة"منكوبي التعليه" في إعفائه من شرط السن و يعود الي مواصلة دراسته في المدرسه بعد ان كان قد طرد منها و لهذا تنتهي الروايه وحامد يمتطي ظهر ركوبته منطلقا في الطريق العام الي مدرسته الابتدائيه في عنيبه. و هكذا كما ذكرنا من قبل تتحرر الشمندوره في النهايه من قيودها في شخص حامد بفضل النضال الجماعي و التمسك بحق المعرفه و التعليم،الذي هو طريق التحرر و الخلاص من التخلف و الامتهان و الاحساس بالدونيه.
و هكذا تبدأ الروايه"بالنحن" الجماعيه و تنتهي "بالانا" الفرديه تغذ السير في الطريق العام،طريق المجتمع الاكبر خروجا من المجتمع الضيق المغلق.علي انها ليست الانا الفرديه المفارقه لتراث الجماعه و انما هي الانا الفرديه التي انتصرت بفضل وعي جماعي و نضال جماعي.
و تتحرر الانا الفرديه بالتعليم،هو علي النقيض من خروج الانا الفرديه من الجماعه خروجا مكانيا فحسب للخدمه المتدنيه في المجتمع الاكبر مما يعني تكريس العزله و الانغلاق الاستغلال و التخلف. وما اكثر التأكيد في مواضع مختلفه من الروايه علي ضرورة التعليم و العمل علي فتح ابوابه للأجيال الجديده كطريق للتحرر و الكرامه.
و تكاد ان تكون هذه هي الرساله الكبري للروايه كما سبق ان أشرت فالروايه لاتسعي فقط الي مجرد تسجيل احتجاجي علي ماأصاب أهالي النوبه من ظلم بالغ وما تحملوه من تضحيات كبيره لتحقيق مشروع تعميري كبير لمصلحة مصر كلها و لاتسعي فقط كذلك الي تأكيد الهويه المكانيه و المجتمعيه و التاريخيه التراثيه للمجتمع النوبي في إطار المواطنه المصريه و إنما تحمل كذلك رسالة التعليم و المعرفه لكل النوبين بل للمصرين عامة بإعتبارها طريق التحرر من التخلف و الدونيه و طريق المشاركه الفاعله الايجابيه في تنمية و تطوير و تجديد الوطن الكبير في مختلف جوانبه السياسيه و الاجتماعيه و التراثيه و الثقافيه و الحياتيه عامة.
و لعل هذا هو الطريق نفسه الذي اختطه محمد خليل قاسم لنفسه.لقد جاهد من اجل ان يواصل طريق تعليمه و استطاع بهذا ان يخرج من حدود مجتمعه المغلق دون ان يفقد خصوصيته التراثيه،بل راح يغنيها و يخصبها باندماجه في المجتمع المصري الكبير و انخراطه في معارك التحرر الوطني و التقدم الاجتماعي و الوحده القوميه العربيه و التحرر الانساني الشامل من الاستغلال و التبعيه و الاغتراب و القمع و الاستبداد و الاستعمار و الصهيونيه و العنصريه و الانغلاق متسلحا بالفكر الاشتراكي المستنير.
إن رواية الشمندوره رغم موضوعها الخاص المحدد هي تعبير عن هذه الرؤيه الإنسانيه الشامله و لهذا فهي روايه ذات خصوصيه متميزه في أدبنا العربي الحديث كما قلنا في البدايه.إنها تجمع بين الخاص و العام،بين الوطني و القومي والانساني، بين التسجيلي و الشعرينبين التقريري و الرمزي،بين التفاصيل الصغيره و الرؤيه الشامله و بين المحنه القاسيه و الشموخ الانساني،بين شراسة الوقع و عطر العاطفه الإنسانيه الزاخره بالوداعه و الطيبه و الصدق و الشجاعه و محبة الجمال و الحياه،تجمع بين رصانة اللغه و شفافيتها الصافيه الموحيه.
هذه هي الشمندوره الروايه التي أبدعها محمد خليل قاسم أما الشمندوره الرمز فماتزال تعاني قسوة قيودها وماتزال تواصل نضالها من أجل الحق و العدال و الحريه و هذا هو معني أن نعيد قراءة الشمندوره الروايه وان نجدد دراستها و أستلهامها في حياتنا....
و تحيه للذكري المتجدده للمناضل و الفنان المبدع مــحـمــد خــلــيــل قــاســــم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق