المقال من كــتــاب رحله في زمان النوبه"دراسه للنوبه القديمه و مؤشرات للتنميه المستقبليه" للباحثان الدكتور محمد رياض أستاذ الجغرافيا بكلية الآداب جامعة عين شمس و زوجته رحمها الله الدكتوره كوثر عبد الرسوال استاذ الجغرافيا بكلية البنات جامعة الأزهر و قد صدر الكتاب في القاهره ديسمبر 1997 مع انهما قد عملا علي الكتاب منذ عام 1966 حيث عاش الاثنان في النوبه و قاما بدارستهما العظيمه في بداية الستينات قبل تهجير النوبين و بعد تهجيرهم.
.............................
في أوائل القرن الـ19 إرتحل إلي النوبه أو مر عبرهاعدد كبير من الرحاله و المغامرين الأوروبين نذكر منهم السويسري لويس بوركهارتJ.L.Burckhardt الذي إرتحل في النوبهعام 1813 ,و البولندي جوزف فون سنكوفكسكي J.Von Senkowesky (1819) و الألماني إدوارد روبل E.Rueppell (1833) و النمساوي أنتون فون بروكش-أوستن الذي كان مبعوث إمبراطور النمسا إلي مصر في الفتره من 1826-1833A.VonProkesh-Ostenو الأمير الروسي هرمان لودفيج بيكلر-موسكاو H.L.Pueckler-Muskau(1837) و الجيولوجي النمساوي يوسف فون روسيجر الذي كان يعمل لحساب مصر 1846-1849J.Von Russegger و الروسي رافالوفيتش Rafalowitsch(1847) و أمليا ادواردز الإنجليزيه B.Amelia Edwards(1877) و غيرهم.
و قد كان لكثير من الرحاله وجهة نظر للموضوع بعضها شخصي و بعضها موضوعي لكن ربما كان أكثر الكتابات موضوعيه هي كتابات بوركهارت و روبل و بروكش-أوستن و الأمير بيكلر موسكاو و ربما أستقينا بعض من هذه الكتابات لتوضيح أوضاع النوبه الإقتصاديه في أوائل القرن الماضي قبل و بعد الإنضمام الكامل في النسيج المصري.
يركز بوركهارت الذي أستغرقت رحلته 35 يوما من أسوان إلي شمال بلاد المحس و العوده الي اسوان علي الأوضاع السياسيه في أواخر أيام حكم الكشاف لبلاد النوبه و ما تعرضت له من دمار إثر هجمة المماليك الفارين من حكم محمد علي و الظلم الذي كان يقع علي النوبيين من جراء الضرائب الباهظه التي كان الكشاف يفرضونها عليهم و يخلص الي ان هذا الجور سبب الفقر العام في النوبه.
لكن بوركهارت كان موضوعيا في وصف النوبه كما رآها مسرع الخطي,يقول ان الضفه الشرقيه في النوبه من أسوان إلي كورسكو أوسع و أصلح للزراعه فهي مكسوه بطبقه من الطمي في حين ان الضفه الغربيه معرضه لسقي من الرمال من الصحراء الغربيه إلا في ظل بعض الجروف و الجبال.و حيث أن رحلته كانت في فبراير و مارس فهو يري النيل ضيقا.و هذا امر طبيعي فالفيضان لم يأت بعد و المحاضيل الرئيسيه التي لاحظها بوركهارت هي الذره و الدخن و يتعجب لعدم زرع البرسيم برغم غمر الفيضان للأراضي الزراعيه .الزراعه لاتتم إلا بري السواقي مما يستلزم وجود الابقار لإدارتها و تتغذي الابقار علي قش الارز و الكشرنجيج.
الحقول مقسمه إلي أحواض صغيره(3*3 أمتار)تدخلها مياه المساقي. و يقول ان الارض تزرع بعد حصاد الدره عدة محاصيل منها الشعير و الكشرنجيج و الفول و اللوبيا و تبغ ردئ النوع أما القمح فهو نادر و ينضج في شهر مارس و علي مقربه من الدر تزرع محاصيل أخري هي العدس و الحمص و الترمس و البطيخ و أن هناك زرعه ثالثه بعد الشعير هي الذره الصيفي التي تزرع في إبريل و لاتتم إلا في الارض الجيده و لابد من ريها بالسواقي و لايجب ان يفوتنا ان نؤكد ان المساحات الزراعيه التي وصفها بوركهارت هي بالضروره صغيره لأنه كان يمر وقت انخفاض النيل مما يستدعي جهدا كبيرا في رفع المياه ومن ثم كانت قدرة الناس محدوده في الزراعه حتي لو كانوا من الذين يمتلكون اعدادا وفيره من الابقار.
و قد لاحظ بوركهارت كثرة النخيل ابتداء من كورسكو لكن اشهره في مصر هو تمر الدر و ابريم( المعروف بإسم البلح الإبريمي) الذي يشتريه تجار إسنا و أسوان و ينقلونه بالمراكب في الخريف حين يساعد تيار الماء القوي علي سرعة النقل الي الشمال.
أما إدوارد روبل قد كان ملاحظا متميزا و لم يركز كثيرا علي موضوع الكشاف باستثناء ذكره ان الخراج السنوي الذي يدفعونه لحكومة القاهره كان في حدود 180 بويتل او مايساوي 9000 تالر(البويتل عمله عثمانيه=500 قرش و في مصر=100 قرش=101 مارك او تالر في تلك الفتره) و الامر الهام الذي اورده ان مايتحصل عليه الكاشف سنويا من الضرائب التي يفرضها علي النوبين يعادل 400 بويتل او 20000تالر مما يعني ان الكاشف يتحصل علي قيمه تزيد علي مايدفعه للدوله و هو مايعطينا فكره عن القوه الماليه للكشاف في تلك الفتره و لابد انهم كانوا يستثمرون جزءا من هذه القوه الماليه في تجارة الرقيق التي كانت تتجمع في دنقله و بلاد المحس ثم تتجه غربا لتلحق بدرب الاربعين بعيدا عن النوبه الشماليه.هذا بالاضافه الي المشاركه في تجارة السودان و مصر عبر وادي العرب.
و حول الزراعه يذكر روبل ان البرابره(يقصد الكنوز) يزرعو الارض العاليه عن مناسيب الفيضان ليأمنوا سلامة المحصول اذ جاء الفيضان مبكرا و لهذا فإنهم يروون الارض صناعيا و في حالة حدوث فيضان منخفض فان الكنوز يعانون ازمة غذاء حقيقيه وهناك محصولان سنويا :الاول في سبتمبر بعد هبوط الفيضان و ينضج في يناير و الثاني في يناير و ينضج في مايو و المحاصيل الهامه هي الدره و الدخن و الكشرنجيج و الشعير و القمح و تزرع اللوبيا علي ضفة النهر و القنوات صغيرة الامتداد و هناك محاصيل ثانويه تزرع في مساحات صغيره من البصل و التبغ و القطن.و تحتاج الساقيه في إقليم الكنوز الي ستة رؤوس من الابقار كل بقرتين تعمل معا نحو خمس ساعات.
و كانت العوائد في النوبه ايام الكشاف لاتحسب علي المساحه الزراعيه بل تحتسب علي الساقيه و يري روبل ان كبار الملاك القادرين علي حيازة عدد كبير من الابقار و الثيران يستطيعون زراعة مساحات كبيره بحكم إمكان تشغيل الساقيه فترات طويله بينما الفقراء الذين لا يمتلكون اكثر من بقرتين او ثلاثة ابقار لايستطيعون زراعة مساحات كبيره و مع ذلك يدفع الفقير نفس الفئه من العوائد علي الساقيه الواحده و في عهد الادراه المصريه أصبحت العوائد علي الارض و الساقيه معا و العوائد ليست كلها نقود بل هناك جزء يدفع عينا من المحصول و من الثوره الحيوانيه و الدواجن.
أما أنتون فون بروكش-أوستن فقد وجد النوبه مقسمه إداريا إلي أربعة اقسام تابعه لمديرية اسوان هي :من اسوان حتي كلابشه و من كلابشه إلي الدر و من لدر إلي غبريم و الاخيره من ابريم الي وادي حلفا.و قال بروكش-أوستن ان في النوبه مدينتين هما الدر و ابريم و 94 قريه و 21 حله منعزله و 15 جزيره مأهوله .و قدر عدد السكان بنحو 50 الفا و النخيل 145 الفا و عدد السواقي اتي تدفع ضرائب836 ساقيه (مقابل 3698 ساقيه عدها روبل جنوب الشلال الثاني).
و قد ذكر الأمير بيكلر-موسكاو ثلاثة موضوعات هامه هي:
1-إنه لاحظ التشويه المتعمد لدي بعض الشباب النوبي لتجنب تجنيدهم في الجيش المصري.
2-و هو أيضا أول من ذر صناعة السياحه عند النوبين :فقد راي أهل كورسكو يبيعون التذكارات السياحيه من دروع و رماح و سياط من جلود أفراس النهر الي المسافرين و المرتحلين في سياحه.
3-و كذلك سجل رؤيته لقري هجرها أهلها بالكامل بحثا عن مواطن جديده في دارفور.
و هنا يجب أن نضيف ماكتبه العلامه المصريه علي باشا مبارك عن منطقة الدر في موسوعته الضخمه"الخطط التوفيقيه" الذي اصدره في الثمانينات من القرن الماضي و يتضح لنا من قراءة ماكتبه عن مدي الغني لتلك المنطقه التي اتخذها الكشاف مقرا للحكم في النوبه زمنا طويلا.يقول علي مبارك:
الدر ...بلدة من بلاد ابريم و هي راس قسم بمديرية أسنا واقعه علي الشط الشرقي للنيل و أبنيتها باللبن و أطواف الطين,علي دور واحد ماخلا منازل أكابرها كمنزل المرحوك الكاشف.
و فيها جامع ينسب لحسن الكاشف له وقف نحو ثلاثين ساقيه بأطيانها يصرف عليه و علي خدمته من ريعها و يطعم منه الفقراء الواردون إليه.
و فيها محل لنائب القاضي و محل لناظر القسم و فيها أثر سوق كان مبنيا باللبن و الطوف و فيها سويقه أخري عامرة يباع فيها :الغلال و التمر و الأقمشه المصريه و النطرون و حب الخروع و الدخان البلدي.
و في شرقيها في سفح الجبل بربا خربة تسمي بإسمها و تجارة الربا مقام و لي يدعي الشيخ عكاشه عليه قبه.
و فيها بساتين كثيره مسوره أكثر شجرها النخيل و شجر الليمون المالح و بهذه البلده نحو سبعين ساقيه و نخيلها نحو 15620 نخله و فيها شجر اللبخ و شجر السنط أمام منازل أكابرها.
و أطيانها العاليه 422 فدانا و المنخفضه نحو 100 فدان و يزرع فيها القمح و الشعير والفول و العدس و الذره الصيفي و الدخن و اللوبياء و الكشرنجيج و الترمس و أنواع الخضروات و الخروعو هذا النوع كثير هناك الي حدود مديرية دنقله و يستخرجون من الزيت.
و يقال ان أكثر أهلها من نسل الاتراك الذين صعدوا الي هناك في اوائل مدة العزيز محمد علي باشا و لذلك الي الان يوجد اسماء رجالهم فلان كاشف كثيرا و في اسماء نسائهم السيده فلانه و هم تميزون عن باقي أهل البلد فإنهم طويلوا القامات ضخام الأجسام.
و يلبس أغنياؤهم ثياب القطن و قفاطين الحرير و الجوخ و أغنياء نسائهم يلبسن الملاءات الحرير و اساور الفضه و يعلقن في ضفائرهن قطع الذهب و الكهرمان و الودع كل بحسبه و يدهن شعورهن بزيت الخروع تاره وحده و تاره يضاف اليه القرنفل او الفتنه او غيره من العطريات.
و يصنع فيها المرجونات و بروش الخوص النفيسه و هي اصناف:
منها الغجري من خوص مصبوغ أحمر و أسود و منها التتري(خوص أبيض و أحمر و أسود)...و منها السلطه ملطه(خوص ابيض و أحمر و أسود و أصفر) و منها الكشومه وهي من الخوص غير المصبوغ.
و فيها الغنم و القر و الإبل و قد يخصون الخرفان ويسمونها الطواشيه و يرغبون في تربيتها و يعتنون بكلفتها و ثمن الخروف الطواشي إذا كان ابن ثلاث ستين جنيه مصري و بين هذه البلده و ابريم نحو اربع ساعات.
و لا شك ان هذا الوصف الدقيق يعطينا صوره جيده عن احوال النوبه بعد ضمها للإداره المصريه بديلا عن الصوره القاتمه التي اعرب عنها الرحاله الاوروبين في مطلع القرن الماضي صحيح ان حكم الكشاف كان استبداديا و هو امر شائعا في معظم العالم في تلك الازمان لكن دقائق الحياه الاسلاميه كانت مرعيه.فإن وقف نحو نصف سواقي الدر بأطيانها علي المسجد و أعمال البر بالفقراء أمر لايمكن ان يفوتنا و ان فات علي الكثير من الرحاله لأسباب عديده ربما كان عاي رأسها جهل الرحاله الاجانب باللغه المحليه من ناحية و عدم القدره هلي التمييز بين ارض موقوفه او غير موقوفه وإلا لعلهم جعلوا ذلك موضعا للتساؤل و السؤال و الاغلب ان مثل هذه الاوقاف كانت موجوده بالنسبه لمساجد و كتاتيب كثيره في ارجاء النوبه من اجل التعليم و البر و الحياه الروحيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق