الخميس، 11 أبريل 2013

عندما اكتشتفت اني نوبيـاً...


من ساعة مااتولدت وامي دايما تقول اننا نوبين مش صعايده ولا فلاحين..وعشان كدا اتعودت ان كل ماحد يسألني في المدرسه انت منين؟ ودا كان سؤال متكرر نظرا لاختلاف لون البشره عن الطلاب العادين خاصة في منطقه زي شبرا كنت بجاوب دايما اني نوبي..وكان الرد الطبيعي "يعني من أسوان؟" ولسبب غريب مش قادر افهمه لحد دلوقتي ويمكن يكون بسبب كلام امي كنت بنفعل وأرد انا نوبي مش من اسوان وفي الاغلب في الفتره دي مكنتش اعرف ان النوبه دي في اسوان.
لم اعرف ماهي النوبه حقا لأسباب عديده منها تربيتي في القاهره وفي منطقه من المعروف ضعف اعداد النوبين فيها ورغم اني جدتي لاتتحدث سوي النوبيه والعربي بتاعها مكسر الا اني لم اتعلم اللغه النوبيه ابدا.يمكن لان امي لم تهتم بالامر ابدا ولم اهتم نفسي بتعلم اللغه فقد اعتدت فهم كلام جدتي بالتقريب...فمثلا لما كانت تصحي من النوم بالليل وتناديني وتقولي"إسي" افهم انها عاوز تشرب ميه ولما كانت الصبح تقولي "إتشي جوجر" افهم انها بتقولي ان اللبن سخن ومش محتاج تغليه وهكذا.
بداية اهتمامي بفكرة اني نوبي وبداية البحث عن ماهي النوبه وايه اللغه الغريبه اللي بسمعها من جدتي طول الوقت كان في الجامعه وبالتحديد في تالت سنه في الكليه"تاني سنه تخصص" في مشروع تصميم لوحه نحتيه وكل واحد في القسم اختار فكره ما وانا اخترت النادي الاهلي..قررت اعمل لوحه نحتيه عن النادي الاهلي"اه والله J" واكتشتف في اول سيكشن لتقديم التصميمات ان اغلب القسم اختار نفس الاختيار او الرياضه بشكلها العام فقررت اني اشوف حاجه تانيه اشتغل فيها لوحدي وجت في دماغي فكرة اني اعمل حاجه عن النوبه وبعد تفكير بسيط استمر 3 دقايق تقريبا اكتشفت اني معرفش اي حاجه عن النوبه....وبدأت ادور
اول حاجه قررت اني اعملها مش اني أسال جدتي او امي لكن كانت اني ادور ع النت و علي كتب عن النوبه وبدأت رحله بحث عن كتب عن العماره والتصميمات النوبيه استمرت لـ3 شهور...نادر اني الاقي كتاب في الموضوع دا ولما لقيت كان كتاب مستخبي في ركن مظلم في المكتبه و عليه تراب وعناكب وكان كتاب "العماره النوبيه_د/ثروت متولي" ورسالة ماجستير"آثر السمات الشعبيه علي التصميم الداخلي_م/سلوي يوسف" دا غير الكتاب المهم جدا واللي صدر في الفتره دي "رحلة في زمان النوبه_د/محمد رياض و زوجته الراحله د/كوثر عبد الرسول رحمة الله عليها"
وبدأت اقرا عن الزخارف والعماره والثقافه واستمر الموضوع معايا في سنه تالته ورابعه ،ومشروع التخرج كان عباره عن تصميم معماري لبيت نوبي مع مزج المفهوم الحداثي في العماره " هنا و هنا كمان" و في الفتره دي بدات اعيد سماع الموسيقي والاغاني النوبيه اللي عندنا في البيت بدات افهم بيتقال ايه في الافراح اللي كنت بحضرها سد خانه مش اكتر بدات اعرف تاريخنا وأصلنا وحضارتنا.
و رغم اني توهت في دوامة الشغل بعد التخرج الا اني قررت في مره اني اروح البلد في العيد.ازور قرشـه واشوف كل كلمه قريت عنها"انا روحت مره وانا عندي 4 سنين ومره وانا في ثانوي بس كانت سد خانه برضه مش اكتر" وكانت زيارتي المفجعه....بيوت زي المقابر زي علب الكبريت جنب بعض..شبه بعض وحياه غريبه،طب فين العماره والرسومات والقبب وعمارة الشمال والجنوب وكل الكلام دا؟؟؟
مقدرتش الاقي الكلام دا غير في غرب سهيل وبصوره ممسوخه كمان...كان التهجير دمر كل شئ..محي الصوره العظيمه اللي قريت عنها في الكتب وحلمت بها ورسمتها ،يمكن عشان كدا في  دي الفتره بدأ اهتمامي بالنوبه يتحول من مجرد عشق لتاريخ وحضاره وثقافه لاهتمام بقضيه...قضيتي وقضية ابويا اللي كانت كلمة النوبه بتنورعينيه رغم ان التهجير حصل وهو عمره 10 سنين...بدات افهم هو ليه دايما بيتفرج علي تلفزيون السودان اكتر من التلفزيون المصري..ليه بيسمع وردي والأمين والرايح اكتر من عبد الحليم وام كلثوم.
اكيد بحس بخجل اني مقدرتش افهم النوبه من وانا صغير ودا منعكس علي حياتي وصداقاتي لحد دلوقتي...لكن بحس بفخر كبير لاني دورت وحاولت اعرف وعرفت وعشقت مكان عمري ماعشت فيه و بحس بفخر اكبر لاني كل يوم بحاول اتعلم كلمه نوبي جديده و الاهم ان اصحابي غير النوبين"الجورباتيه" بقيت بعلمهم الكلام النوبي واحكيلهم عن النوبه والقضيه والثقافه وبدءوا يعشقوها هم كمان لدرجة ان في صديق ليا مش نوبي كل اما يتصل بيا في التليفون لازم يبدء المكالمه ويقولي "مين ابو امبيسا؟"
 

الأربعاء، 8 أغسطس 2012

النوبة بين جيل زكي مـراد وجيل النوبين الجُــدد

منذ أيام فوجئنا باحد الناشطين النوبين الجُدد وهي هنا عائده اللي حداثه اهتمامه بالقضيه النوبيه وكذلك حداثه اكتشافه انه نوبي فهو لم يعرف عن النوبة اي شئ حتي تقريبا عشر سنوات مضت...فوجئنا بهذا الشخص يسب في الشهيد الراحل الرفيق زكي مـراد ويتهمه بانه وجيله من المناضلين النوبين قد خانوا النوبه وباعوها من اجل مصر وانهم لم يفعلوا شيئا عندما بدء عبد الناصر ف تهجير النوبين في بداية الستينات ولم يعارضوا المشروع الكارثي الذي اطاح بالنوبه ودمر تاريخها وبالتاكيد فان مايقصده هذا الناشط مشروع السد العالي فبالنسبه له ولأمثاله فان الازمه ف السد نفسه بعيدا عن اي شئ اخر....لايام حاولت ان اضع مقارنه بين الشهيد زكي مراد وجيله وبين هذا الجيل الجديد من النوبين والذي لايقتصر علي هذا الناشط الذي يعيش في اوروبا ويدعي معارضه النظام من ابعد مكان ممكن بل هو جيل ملئ بمن يدعون البطوله والمعارضه ولكنني لم اجد مايمكنني من المقارنه بين الجيلين ولم اجد الا ان احاول ان اشرح من هو زكي مراد ومن هم رفاقه واحاول ان اشرح ف بضعة اسطر من هو النوبين الجُدد و ماهي انشطتهم المعارضه :)بداية احب ان اقول ان زكي مراد ورفاقه بداية من الراحل محمد خليل قاسم والراحل مبارك عبده فضل والراحل محمد حمام وعمنا سيد إسحق اطال الله عمره وغيرهم من ابناء النوبه الذين انضموا للحركه الشيوعيه ف اربعينات القرن الـ20 لم يحاولوا معارضه مشروع السد العالي فهو اولا كان مشروع قومي يقف صرحا مصر عربيا في مواجهة الاستعمار من جهه ومن جهة اخري لم تكن الازمه في السد العالي بقدر ماكانت في التعامل الخاطئ والمهين للنظام الناصري مع النوبين والاهم من كل ذلك ان هؤلاء المناضلين لم يواجهوا ناصر وقتها لانهم وبكل بساطه كانوا داخل معتقلات عبد الناصر بدءا من عام 1959 وصولا لعام 1964 بل ان مناضلين مثل زكي مراد وخيلي قاسم كانوا ف المعتقل طوال الفتره من 1953 حتي 1964 حيث كان النظام الناصري قد اعتقل الاف من الشيوعين واودعهم في سجونه عندما وقفوا حجر عثره بين العسكر وبين السلطه عندما طالبوا بالديمقراطيه وعودة الاحزاب و عودة الجيش الي ثكناته...ثانيا ساحاول ان اتحدث عن ابناء هذا الجيل فرد فرد ليعرف مدعي النضال مع من يتعاملون....

الرفيق الشهيد زكي مرا مع الراحل نبيل الهلالي

اولا..الرفيق الشهيد زكي مراد

تم اغتياله عام 1979 بايد النظام الساداتي وباومر من المخابرات الاسرائيليه عندما بدء زكي مراد في تكوين الجبهه الديمقراطيه الوطنيه المعاديه لمعاهدة كامب ديفيد ومعاديه للهيمنه الاسرائيليه والامريكيه في مصر فما كان من شئ امام الصهاينه وحليفهم السادات الا اغتياله، شارك زكي مراد في وضع دستور جمهورية جنوب اليمن الديمقراطيه وكان من اشد المؤيدين للمقاومه الفلسطينيه..

ذلك الرجل الذي كتب له الفاجومي احمد فؤاد نجم قصيدة يابلح ابريم التي غناها الشيخ امام له ثم اقتبسها محمد منير 



ثانيا..محمد خليل قاسم

اول اديب نوبي في الثقافه العربيه ومُبدع رواية الشمندوره ومناضل شارك في انتفاضه الطلاب و العمال في عام 1946 ضد الاحتلال وضد الملك وتعرض للاعتقال من عام 1948 حتي العام 1950 ثم عاد الي المعتقل مره اخري في عهد النظام الناصري من عام 1953 حتي العام 1964 وكتب روايته العبقريه الشمندوره داخل السجون ومات بعد خروجه من المعتقل بأشهر قليله

الراحل محمد حمام اثناء تواجده في اوروبا الشرقيه

ثالثا...محمد حمام

دخل حمام السويس بعد نكسة 1967 وشارك في المقاومه الشعبيه اثناء حرب الاستنزاف واثناء حصار السويس ضد جيش الصهاينه وشارك في جبهة المقاومه الوطنيه الللبنايه ضد الاجتياح الاسرائيلي في بداية التمانينات وكان احد اصوات المقاومه التي غنت بطول الوطن العربي وعرضه وكان عضو في جبهة البوليساريو التي حاربت ضد النظام الملكي الرجعي في المغرب وضد الاستعمار هناك 


رابعا...مبارك عبده فضل

 لم يختلف عن رفاقه في المعتقلات التي زارها وعاش فيها اغلب سنوات عمره حتي رحيله فقد رحل عن عالمنا وهو يواجه السجن علي ايدي نظام مبارك عام 1999..كان طالبا في الازهر في الاربعينات وشارك في انتفاضه الطلاب والعمال في هذا الوقت وكان هو القائد والمحرك لطالب الازهر لدرجة ان الجامعه فصلته فعاد وتسلل من فوق السور وخطب في الطلاب ودفعهم للخروج في الشوارع مواجهين قوات الاحتلال وقوات الشرطه المصريه هاتفين بسقوط الملك و بالاستقلال

خامسا..سيد إسحق اطال الله عمره وادام عليه الصحه...

مناضل وثوري وكاتب واديب شارك في انتفاضة الطلاب والعمال في عام 1946 وكان وقتها طالبا في مدرسة الخديويه الثانويه ودخل معقتلات النظام الملكي ومعتقلات عبد الناصر وشارك في انتفاضه عام 1977 وتشرفت بمعرفتها منذ حوالي عامين ونصفساذكر لكم موقف واحد عن هذا الرجل لتعرفوا مدي اخلاصه وحبه للوطن والثوره عمنا سيد اسحق رجل اصم لايستطيع السمع وتخطي الـ90 من العمر تقريبا ولايستطيع الحركه بسرعه ومع ذلك شاهدته بالصدفه يوم 25 يناير 2011 يوم اشتعال الانتفاضه الشعبيه الثوريه ضد نظام المخلوع مبارك في ميدان التحرير يسحب في ايديه عم عموف وهو مناضل عجوز ايضا ويهربان من قنبلة غاز اترمت علي بعد امتار منهمهذا هو عمنا سيد اسحق....هؤلاء ليسوا اكثر من عينه من مناضلي النوبه داخل الحركه الشيوعيه المصريه فهناك خليل كلفت اطال الله عمره ايضا وهناك عبده دهب وغيرهم من المناضلين الذين وقفوا في مواجهة النظام في مصر والسودان حيث ان مجموعة الشهيد زكي مراد كان لها دور تاريخي في بناء الحزب الشيوعي السوداني بقيادة الشهيد عبد الخالق محجوب والراحل محمد وردي.

..............................

النوبيون الجُـــدد

مع نهاية التسعينات وبداية الالفيه الجديده ظهر علينا مجموعه من الناشطين الذين سموا انفسهم قاده و زعماء النوبه وشكلوا لجان وانشقت عنها لجان وجمعيات  وغيره وغيره ولم يقدم هؤلاء اي حلول حقيقيه للقضيه النوبيه ولم يفعلوا شيئا سوء اطالة مداها لكي تزدادا مكاسبهم الماديه والمعنويه من وجاهه ومنظره فارغه وغيره...

رقم 1...

فمثلا هناك محامي كان سمسار نصاب تحول في يوم وليله الي بطل نوبي عندما شارك ف رفع قضيه علي راقصه مشهوره يتهمهما باهانه النوبيه مع ان قبلها بايام قليله قتلت شرطه مبارك شاب نوبي في قرية دابود و مع ذلك لم يحرك هذا المحامي ساكنا من اجل القتيل فهو لا يريد الدخول في خلافات مع الداخليه فهم يعرفون عنه كل بلاويه ونصبه واحيانا يعمل معهم..هذا المحامي كان ضد الثوره ولم ياتي الي التحرير الا يوم 11 فبراير قبل تنحي مبارك بساعات قليله

رقم 2...

ناشط او هكذا يسمي نفسه ورئيس الجاليه النوبيه في كوكب زحل والمجرات المحيطه بنا يعيش في اوروبا ويكسب فلوسه من العمل في احد منظمات المجتمع المدني والتي لايعرف احد من اين اتت اموالها لم يعرف عن النوبه اي شئ الا منذ حوالي عشر اعوام عندما شرحت له امراه نمساويه ماهي النوبه...عنصري الي ابعد مدي وكما قال في بعض تصريحاته قبل الثوره وبعدها انه مستعد للتحالف مع الشيطان من اجل النوبه لذا فقد حاول التحالف مع الحزب الوطني وعندنا اطاحت الثوره بمبارك تحول الي ثوري وهكذا اينما كانت السبوبه كان هو موجود

رقم 3....

رجل كبير عاش في ليبيا حوالي 3/4عمره وعندما اصبح مليونير قرر ان يعود ويتفرغ للقضيه النوبيه ويجعل من نفسه زعيما ولايمكن ان ننسي الخطاب الذي وجهه للمخلوع ف عام 2010 تقريبا عندما ردد اكثر من 13 مره كلمة سيادة الرئيس وفخامة الرئيسهؤلاء ليسوا اكثر من عينه من نوبين القرن الـ21 الذين يكرهون الشهيد زكي مراد ورفاقه ولايفوتون الفرصه الا وسارعوا بشتمهم في مناسبه او غير مناسبه

 يتبع هؤلاء مجموعه من الشباب التافه الذي يحاول ان يكون عنصريا ضد كل ماهو مصري وفقط 

لذا لايمكنني ان اقول سوي ان الكلاب تنبح والقافله تسير فتبا لهموالمجد للشهداء والراحلين وكل المناضلين النوبين الذين دافعوا عن وحدة الوطن المصري والعربي والافريقي وشاركوا في الثوره في مصر والسودان والكونغو وفلسطين والمغرب ولبنان واليمن 


الأحد، 17 يونيو 2012

الجمعة، 13 أبريل 2012

النوبه هي الجنينه و الشبـــاك...بقلم الأديب يحيي مختار


بقلم:يحيي مختار
روايه"جبــال الكحـل"
الجنينه و الشباك بالنوبه القديمه هي قريتي التي وُلدت فيها 1936 بعد ثلاث سنوات من التعليه الثانيه لخزان أسوان و الذي أختزل مواسم العمل في الارض الي موسم واحد من ثلاثة اشهر،فكان علي الذين بقوا في القري بعد هجرة القادرين علي الكسب إلي الشمال ان يملاؤا الشهور التسعه بالغناء و الرقص و إقامة موالد أولياء الله الصالحين"سيدي كبير" و"الشيخ عبدالله" و"سيدي حسن أبو جلابيه" و ينشدون السفن في مدح رسوال الله عليه الصلاة و السلام و ان يحكي العجائز الحكاوي حول الكوانين وعلي المصاطب وكان علي النساء و الفتيات ان يغزلن الخوص أبراشا و أطباقا ملونه و يزين الدور بالرسوم و الزخارف يستوحين فيها جداريات المعابد و الكنائس القديمه و يلصقن علي جدران الواجهات اطباق الصيني المزركشه.
جئت إلي القاهره سنه 1943 في صحبة والدتي للحاق بوالدي الذي كان مقيما في حي العرب بالمعادي جنوب القاهره،جئت محملا برؤي ذلك العالم الجميل:النهر النوبي بعظمته وكبريائه و اندفاعه..غابات أشجار السنط علي الشاطئ الريان و أدغال النخيل الكثيفه بعراجين البلح كالثريات أو كشخوص غرقي يرفعون أيديهم طلبا للنجده عندما ترتفع مياه النهر وقت الدميره(الفيضان) وبعدها..المركب السابحه كالوز في النيل بأشرعتها البيضاء..و علي صواريها الاعلام الصغيره الملونه بالجلاجل النحاسيه بصلصلاتها مع ريح الجنوب الواهنه،الدور المتناثره في كل نجع بألوانها الزاهيه و رسوماتها البديعه تقف مزهوه علي طول الشاطئ تطل علي النيل تباركه و تتبرك به.السكون الشامل كان يلف الوجود كله،حتي أننا كنا نسمع ثرثرات الذين يديرون"الونسه"علي الشاطئ الآخر البعيد تحملها مياه النهر الساجي..هناك..كان الكون كله في ديمومه تسبيح و صلاه.
جئت حي العرب و لم أكن أعرف كلمه واحده عربيه..كانت غربة لغه و مكان هذا هو "بر مصر".عالم غريب مختلف تماما ومغاير لكل ماعشته:ضجيج و زحام..عمائر شاهقه و سيارات مسرعه تنفث دخانا كثيفا،و عربات ترام تصدر صريرا عاليا مرعبا،وكارو وحناطير و دراجات..دنيا مفزعه ومخيفه،بشر مختلفوا السحن و الملابس يتحركون لاتعرف مقاصدهم و فيم يسرعون و يزعقون،أسقطت في هوه من البلبال و التوجس و الخوف و الوحده،اي حصار كان؟..بدا الامر بمثابة زلزال.
بدأت في تعلم مبادئ العربيه قراءه و كتابه علي يد شيخ يدعي "الشيخ إبراهيم أبو دراع" كان بذراع واحده..كان قاسيا و رهيبا..كاد يصرفني عن الدروس و الدراسه ثم ألتحقت بكُتًاب شيخاً ضريرا يدعي إبراهيم مطاوع..كان سيمنا جدا و بكرش ممتد أمامه بقيت في الكُتًاب لمدة عامين حفظت فيهما جزئئ عم و تبارك.
تعلم العربيه الفصحي في الكُتًاب و علي يدي الشيخين و التعامل مع أقراني بلغه اخري هي العاميه في الحي و في المدرسه بعد ذلك كان تحديً الأول وكان بدء تجاوز الزلزال.
و لكن ماكان مربكا لي في أول الأمر أنني في البيت مع والدتي ووالدي و اقاربي نتحدث طوال النهار بالنوبيه و في الشارع بالعربيه العاميه و في المدرسه بالفصحي و ظلت هذه العوالم المختلفه متجاوره و متعايشه.
حقيقة أعاقتني النوبيه عن سرعة التقدم في العربيه و ان جعلتني احتفظ في أعماقي بعالمي القديم و ايقاع الحياه فيه و مغذيا وجداني من العلاقه الموصوله بالأهل في قرانا في الجنوب و في تجمعاتنا في الشمال من خلال الجمعيات و المقاهي النوبيه وباقي المناسبات من أعياد و أفراح و مآتم.
كانت صلتي الاولي بعالم القراءه بعيدا عن كتب المدرسه من خلال جريدة"الأهرام" و"المختار" من الريدرز دايجست"كان أبي مواظبا علي قراءتهما و كان يختبر مدي تقدمي في الدراسه و تعلم العربيه بأن أقرا ه الجريده و فقرات مما هو منشور في مجلة "المختار" كنت اقرا دون أن أفهم كثيرا مما أقرا. فمثلا لم أكن استطيع التفرقه بين كلمة"أعداء" و "أعضاء" و كانت محاولة الفهم هي التحدي الثاني،فهم الواقع الجديد الذي أعيشه و لا اعرف عمق دروبه وكذلك فهم العالم الواسع الذي تفتح القراءه نوافذه أمامي. في المدرسه وقعت لي تجربه مثيره،مدرس اللغه العربيه كان ق أعد كراسه"التحصير" الخاصه به علي شكل كتاب مطبوع بغلاف ملون جميل تحت عنوان"التعبير الحديث" و وزعه علينا مقابل خمسة قروش..هذا التحول المثير العجيب لكراسة تتحول الي كتاب مطبوع متعدد النسخ يحمل اسم الاستاذ عبد الباسط بركات،هذا الاسم الذي أراه مجردا و مطبوعا،با لي ككل الاسماء التي أقراها علي باقي الكتب المدرسيه و علي صفحات الاهرام و المختار،هذا الاسم يتجسد دونهم جميعا في عبد الباسط بركات الذي اراه و اعرفه و انا لم أر الاخرين و لا أعرفهم و لكنهم يأتون الي من خلال كتبهم بدا لي الامر اشبه بالسحر.تكون لدي رغبه قويه و عارمه لان أضع أنا أيضا كتابا.
لم أكن أعرف ماهي المطبعه و كيف تطبع الكتب و الصحف و لأنني لم أنشا في المدينه او حتي في قريه من قري الشمال فظللت في قريتي غفلا لم تتسرب إلي معلومات تكمل او تضئ لي ايه معارف عن الحياه،فظلت الاشياء محجوبه عني باقيه في منطقه من مناطق الظل..و في الشمال بدأت تهطل علي جذاذات متفرقه كل لحظه بدفقات من المعارف الجديده حتي كانت كالسيل، و بدأت أُمارس في وحدتي لعبة تركيب هذه المتفرقات في سياقات أفهمها.
بدأت أمتلك أشياء جديده كل يوم لتضاف إلي ماكنت أعرفه من عالمي القديم، حيث كانت الاشياء قريبه جدا،أوراق الشجر و روائحها بدء نمو النبات عندما يشرع في شق التربه،الرمال..الزلط..الطمي و رائحته..الماء و النهر و الموج..اعشاش العصافير..الحيوانات،كل مايحتويه عالمي ذاك،و كان ثمة تحول مهم في حياتي عندما سكن ابن خالي محمد الماوردي بجوارنا منتقلا من حي المناصره في قلب القاهره،علي يديه تعلمت قراءة روايات الجيب و بقدر ما بهرني ذكاء شرلوك هولمز و حبكة روايات"أجاثا كريستي" فإن روايات "أرسين لوبين" ملكت علي نفسي،هذا البطل الذي يعرض نفسه للخطر من أجل ان يأخذ من القادرين ليعطي الفقراء محولا قبح السرقه من الوجهه الأخلاقيه و الدينيه إلي عمل مشروع يتعاطف القارئ معه،لقد سلم "موريس لبلان" بأن هناك ظلما واقعا وقائما في العالم،إن هذا الحس الانساني الرهيف و الذي يشكل الخلفيه الشفيفه لكل روايات البوليسيه المحبوكه و المشوقيه أسرتني في سنوات مراهقتي،كان فهما ساذجا للعداله و لكنه عمق وعيي بما يكابده أهلي في قريتي الفقيره و جيراني حيث أقطن و اشعرني بمدي حاجة كل انسان للمساعده،حتي أولئك الذين يبدون أقوياء،أستقر في يقيني ان كل انسان في هذا العصر في مسيس الحاجه للمساعده و المسانده، وبعد سنوات تعمق هذا الإحساس و نضج في رؤيه أكثر أتساعا بعد إلتحاقي بقسم الصحافه بجامعة القاهره حيث انفتحت في قراءاتي في مجالات أخري غير الأدب في الفلسفه و التاريخ و تعرفت علي الفكر الماركسي و درست كتابات ماركس و انجلز و فيورباخ و غيرهم و وجدت الاشتراكيه العلميه صدي عميقا لها في نفسي و كان المناخ الذي ساد مصر في الخمسينات بشعارات ثورة يوليه و الإصلاح الزراعي ثم التأميمات و الاقتصاد المخطط، و شعارات الاشتراكيه العربيه و إذابة الفوارق بين الطبقات و مناهضة الاستعمار و الاحلاف العسكريه ماجعلت نظرتي للحياه تختلف و لينمو في داخلي الحس الطبقي، مما جعل زاوية الرؤيه عندي تنفرج لتكون هناك رؤيه شموليه لحركة الإنسان في الوجود.
و هكذا أوصلتني روايات الجيب إلي شاطئ اخر ،لتكون بدايىة دخولي إلي عالم القراءه الجاده الرحبه بعدما رسخت عادة القراءه:روايات الهلال ذلك الانجاز الرائع لجورجي زيدان، ثم سلسلة "كتابي" لحلمي مراد و التي صدرت في صورة قشيبه جذابه،عمقت حبي للقراءه و فتحت لي آفاقا أخري واسع نحو التعرف علي ابداعات الثقافات الاخري و خاصة الغربيه ثم أردف السلسله بسلسله أخري هي "مطبوعات كتابي" خصصها للأعمال الكامله لروائع الروايات العالميه و عرفت الطريق الي دار الكتب في ميدان باب الخلق بعد معرفتي الدقيقه بسور الازبكيه و انفتحت امامي عوالم مثره و جديده متنوعه، و قرأت بنهم شديد في شتي فروع المعرفه من فلسفه و تاريخ و نقد و قصص، كنت متعطشا..قرأت لمعظم الكتاب المصريين بلا استثناء،الكبير و الصغير و القديم و الجديد،تأثرت جدا بعالم الفقراء و المهمشين عند طه حسين "المعذبون في الارض" و توفيق الحكيم في عودة الروح و في مسرحياته بجوار الساحر المعجز، كما دخلت عالم استاذنا العظيم نجيب محفوظ و يحيي حقي الفنان الكبير و الذين احدثا انقلابا كاملا في اللغه و هي من أعظم الانجازات إضافه الي ابداعهما الروائئ و القصصي و لتقترب اعمالهما مع يوسف إدريس عبقري القصه القصيره  مع أعمال الكتاب الاوروبين و حيث كان لهم الفضل في ان يكونوا مقدمه طبيعيه لأجوس في عالم الكتاب الاوروبين و الروس.
 وكان تأثري شديدا بتشيكوف و ديستوفسكي اللذين قرأت أعمالهما الكامله اكثر من مره و مازلت،لقد غرقت في عالم شديد الخصوبه و الانسانيه و وقعت في اسرهما بالرغم من اختلاف رؤيتهما.
كما كان تأثري شديدا و مازال بوليم فوكنر في روايات الرئيسيه الثلاث:"الصخب و العنف" و "ستاروس" و"قداس الراهبه". "يوكناباتوفا" هذا المكان الموجود بالخيال بلا وجود،مكان اسطوري اصبح واقعيا بالابداع،هذه المقاطعه الخياليه التي خلقها فوكنر ليجري عليها احداث رواياته لتشغي بالحياه و الحركه..هذه المقاطعه استدعت عني قريتي "الجنينه و الشباك" في النوبه القديمه،التي كانت موجوده بالفعل لابالخيال في أعماقي،عزمت ان توجد بالفعل و بالقوه  ليحقق وجودا كاملا و واقعيا من جديد..و كان ذلك طريقا لان ادرك ان تجربة الانسان النوبي تختلف عن ايه تجربه أخري،فبلاد النوبه في اقصي جنوب مصر اصبحت تحت مياه بحيرة السد العالي،ليست اطلالا دارسه يمكن العوده اليها كما كان يعود العربي القديم إلي مرابط القبيله بعد ارتحالها،انها مكان لايمكن ان يُستعاد في الواقع و لكن الحنين و التذكر و الامساك به كتابة بعد تبدده،استعادته في الجغرافيا كما كان في التاريخ،اصبح همي الخاص انقاذ الذاكره النوبيه لكي لاتغرق في مياه البحيره مع الوجود الذي غرق فيها،مدركا ان يدوم هذا الخيط النوبي الاصيل بخصوصيته وتفرده داخل نسيج الوطن لانه منه و هو احد مكوناته يمده بنسغ الاستمرار و التواصل حائلا دون انقطاع تاريخ مصر في حقبه مهمه من وجوده و الذي تحمله النوبه في اعماقها منذ بدء نبض الحياه في الكون عند ضفاف النيل،تحمل في أعماقها العصر الفرعوني و المسيحي و الروماني و الاسلامي..استمرار النوبه هو بقاء هذا الخيط الخاص و العام في مكونات الوطن يثريه و يغنيه يزيده قوه ،يضيف اليه و يأخذ منه و لكي لا يكون جيلنا او عصرنا هو عصر اندثارالنوبه التي ظلت باقيه تقاوم الدهر منذ اجدادنا الفراعنه حتي اليوم،لن يكون هذا العصر وصمة لنا جميعا.
ان ماحدث لبلاد النوبه هو تغير كوني،و لن اقول ان النوبه أصبحت كقارة أطلنتس المفقوده،فمازال البشر الذي استوطنوا النوبه منذ بداية الخلق موجودين يحملون في أعماقهم نسغ الحياه القديمه التي لم تختلف كثيرا عما كانت عليه منذ بدأ الانسان الاول حياته في مدارج طفولته في ذلك العصر القديم ادواته و طرائق عيشه عزلة المكان الذي لم تخترقه الآله..اللغه الخاصه و التي هي امتداد طبيعي للغة الانسان المصري القديم، والتي لم تستطع اللغه العربيه القضاء عليها كما فعلت في لغات اخري كثيره فمازال الانسان النوبي في مجتمعه سواء في المهجر الجديد او داخل اسرته في بيته في المدينه يعبر عن نفسه بعا،اغانيه و افراحه عدودة الموت و حكاويه و طرفه، و مازالت هذه اللغه حيه تحمل تراثا وقيما و عادات شديدة الخصويه،مرتبطه بالنيل الي كان يُعبد و مازال النوبي يقدسه..يحبه و يخشاه..لايلوثه و لايجعل شيئا يحجب عنه.إنها منظومه كامله وتجربه بشريه فريده لم يلتفت إليها و لم يعتن بها احد و لم يعانيا الا من عاشها.
السينما المصريه و المسرح و اخيرا التلفزيون لم يقد الانسان النوبي_وهي من اخطر ادوات التعبير_ الا علي شكل خادم اسمر او أسود يتمنطق حزاما احمر و يضع علي راسه طربوشا احمر و ينطق العربيه بشكل مضحك،ليس هذا هو النوبي ابن الحضاره العريقه و صانعها،تمام مثلما يقدمون ابناء الصعيد في بعض المسلسلات.و اذا كنت احاول ان استعيد المكان الاول الطفولي و فضاءه،ان استعيد الهارب المتبدد و ماقوضه الزمن فإن نظرتي لتراث أهلي النادر و الذي هبت شعوب العالم لانقاذه و المحافظه عليه من الغرق و الاندثار فأقامت له متحفا من خلال اليونسكو،فإن السؤال مازال يلح علي:
أين مكاننا و نحن الذين ظلنا حراسا لهذه الكنوز خلال الحقب الطويله؟
في تقديري ان الادب النوبي ينبغي عليه ان يعبر عن هذه التجربه الإنسانيه و عن معاناة الانسان المصري الذي اُقتلع من جذوره في تلك البقعه من ارض الوطن.لم تتعرض طائفه من البشر_في حدود علمي_ لنا تعرض له النوبي والكاتب اذ يقبض علي هذه الجمره المتقده إنما يعرض لها من خلال تجربته التي عاشها هناك في طفولته و صباه و شبابه، ومن خلال ثقافته التي تشربها عبر لغه مغايره للغته الام،يقدم الكاتب النوبي ابداعه الخاص هذا لبني وطنه الذين لايعلمون شيئا عن هذه البقعه من ارض وطنهم،إن معاناة الانسان النوبي هئ جزء من معاناة الانسان المصري الذي يلحقه نفسه التهميش.
هناك أجيال سوف تاتي لاشك لم تعان من التهجير و لم تعش في النوبه القديمه و سيكون لها تجاربها الخاصه، و ان المراره التي يمكن ان تلحظ في بعض الكتابات النوبيه لاتمس السد و لكن تشير إلي الاهمال و سوء الإداره التي عولجت بها قضية الانسان هناك،تماما كما هو حادث في قضايا السيول في الجنوب في قنا و سوهاج و غيرهما،مثلها في انهيارات المنازل و العمارات في الزلازل و نحن جميعا خضنا معركه بناء السد الذي كان و لايزال لخير مصر كلها و الذي خضنا حرب 56 التي فُرضت علينا عقابا علي تصميمنا علي بنائه طضروره في مسيرة تنمية و تقدم بلادنا.
للكتابه النوبيه حصوصيه ترتكز علي خصوصية مكان ذي جفرافيا و طبيعة متفرده هي التي ابدعت معمارا خاصا للبيت النوبي في اصوله إلي العمار الفرعونيه و النيل لدي الكاتب النوبي مثل الحاره عند عميدنا و استاذا نجيب محفوظ،النيل هذا المستكين المغلوب علي امره هنا في الشمال المروض و الملوث أمره في النوبه مختلف،هو هناك الافريقي الهادر،هو الملك الذي حمل موسي في مهده و نجاه من فرعون يسكنه القوم الاخيار الذين هم سلالة الاجداد الذي فروا في العصور السحيقه من الاضطهاد فرفعوا صفحته كما ترفع السجاده و اختفوا تحته..النيل لايُدنس هناك..النيل علًم النوبي الجمال و الطهاره و الامانه، و لأنه محاط بهالات الاجلال و القداسه لذا تقف البيوت النوبيه في صفوف متراصه موازيه للنهر ليري النوبي في اصباحه و حين يمسي،كل ذلك خلق قيما و عادات و اعرافا و قصصا و حكايات و اساطير و حلق اشكالا حاصه من الفنون النوبيه.النقوش و الأشغال اليدويه..الجداريات الخاصه في المعابد و الكنائس و التي تحمل اصداء الفن الفرعوني و القبطي و الوثني..العماره..كل هذا وغيره هي خصوصيه ثقافيه و حضاريه امتزجت في وجدان الانسان النوبي ضاربه في عمق جذوره المصريه الفرعونيه والقبطيه و الاسلاميه و من قبلهم الزنجيه.و مازال مبدعو النوبه باستمراريتهم يشكلون تيارا فاعلا و حضورا بليغا في الحاضر الثقافي باعتباره رائدا خصبا يعمق نهر الابداع المصري.

لم تكن الكتابه عن النوبه و ناسي في قرانا القديمه في البؤره الواعيه من توجهي،فقد كان بناء السد العالي حلما قوميا استبد بنا،وقع العدوان الثلاثي و انخرطت مع زملائي من طلاب جامعة القاهره في كتائب الجامعه لصد العدوان و ظلت النوبه متواريه خلف الإطار الذي يحركنا،و تحقق حلم بناء السد،و معه جاء الغرق و التهجير و كنا نعي اننا سُنقلتع من جذورنا و رغم ذلك قمنا قومة رجل واحد لبنائه و لندافع عن حقنا ف تطوير حياتنا نحن حفدة البناة العظام. و لكني كرهت البيروقراطيه و الإهمال و عدم الإدراك الواعي و الإحساس بالمسئوليه القوميه و الإنسانيه التي عالجت أوضاعنا،هذه البيروقراطيه وقصور الرؤيه الذي تعامل مع الإنسان النوبي باعتباره كماً ينبغي نقله من مكان لمكان يحشره فيه. و يكون بذلك قد أدي ماعليه..لم تقف البيروقراطيه لتظر وتتأمل حياة هؤلاء الناس من وطنه،كيف يعيشون.ماهي عاداتهم و تقاليدهم و لم تحسن طبقات التاريخ الذي يحمله وجدانهم،لم يعرف معني و قيمة المتي و رفاتهم لم يعرفوا مدي قداسة قبور الموتي التي توارثها النوبي عن اجداده الفراعنه. و ما رسخ في أعماقه من خشية اللعنه التي تصيب العابثين بها، ولذلك كان حارسا أمينا لها طوال حقب التاريخ ليكون هو الوحيد الوفي الأمين لأجداده الفراعنه فلم ينهبوا القبور و لاتاجروا في ممتلكاتهم و لم يدنسوا قداسة الموتي و لم يزعجوهم في مراقدهم الابديه.لم تفهم البيروقراطيه شيئا من ذلك فلم تفكر في ان ينقل النوبي معه رفات اهله،الذين شعروا انه يتركون للطمي و الاصداف و الاسماك في البحيره اجساد ذويهم متخلين عنهم و خائنين للعهد و هي نفس البيروقراطيه التي تعاملت مع العماره النوبيه بخصائصها الفريده بغلظه و غباء فدمرت جمالا نادرا و تاريخا معماريا اصيلا و موصلا بالعماره الفرعونيه لايمكن استعادتها.ربما بدا مااقوله رفاهيه و حلما ساذجا في الظروف التي كانت تمر بها البلاد و ترفا دافعه تعصب مقيت و لكن يدحض هذا ماحطمه ذلك في وجدان الانسان النوبي و قطع حقبه من تاريخه و ذاكرته مشوها هويته و مكوناته و وجوده الروحي.سالبا الذاكره المصريه في شمولها عنصرا مهما و اساسيا من مكوناتها.
و هنا اطرح سؤالا ساذجا بعد ان قُضي الامر.لماذا لم تنقل قرانا حول البحيره في مواقعها القديمه؟تماما مثلما كنا نزحف نحو التلال شرقا و غربا مع كل تعليه للخزان؟
النوبه انبعثت و طفت من الاعماق تطالبني بكتابتعا بعد ان غرقت فكتاباتي الاولي لك تكن تحمل هذا الهم.فأول قصه نشرتها بإسم"البناء" في مجلة الجامعه كنت ادرس في قسم الصحافه بأداب القاهره.كان ذلك عام 1957 ولم يكن بها علاقه بالنوبه و قصه اخري هي "قطه من العصر المملوكي" عن النكسه نتدثره بالرمز.نشرها لي الراحل الجميل عبد الفتاح الجمل بجريدة المساء عام 1969 و في نهاية عام 1970 كتبت"عروس النيل" أول قصه نوبيه بعد رواية الشمندوره للصديق الراحل محمد خليل قاسم و لكنها لم تنشر غلا في يونيه 1973 في الملحق الادبي لمحلة الطليعه القاهريه و كان لتأخر نشرها لمدة ثلاث سنوات كامله مااصابني بالاحباط انا المُقل جدا في الكتابه،توقفت تماما ثم تحركت النوبه مره اخري في اعماقي فنشرت"حكايات للنسيان"في مجلة صباح الخير عام 1981..ثم قصه واقعيه نشرها لي الصديق الروائي جمال الغيطاني في صفحة الادب بالاخبار عام 1985 و ظلت مجموعتي الاولي في الخزانه سنوات دون نشرها و دون كتابات اخري و للمره الثانيه كان الفضل للصديق جمال الغيطاني الذي اشرف في فتره علي اصدارات إدارة الكتب و المكتبات بأخبار اليوم فصدرت المجموعه بعنوان القصه الاولي "عروس النيل" في اكتوبر 1990 لأحصل بها علي جائزة الدوله التشجيعيه عام1992..و هو جمال الذي زف إلي نبا الفوز بها  وانا مغترب في البحرين و قبل حصولها علي جائزه كانت حافزا قويا لأنجز روايه قصيره في مجموعه"ماء الحياه" عن دار سعاد الصباح و كان ايضا الصديق جمال الغيطاني وراء نشرها_ثم اخيرا في مارس1997 صدرت مجموعتي الثالثه"كويلا" في اصوات ادبيه التي يرأس تحريرها الصديق محمد البساطي.

و في النهايه يهمني ان اقرر انه لايعنيني مطلقا اجري وراء موضات الابداع التي تفد الينا من ىليات وقع مغاير لحياتنا و متطلباتها .لايعنيني الحداثه او قضايا التجريب،كما يستفزني تخريب الثقافه و الابداع بالدعايه الاعلاميه،همي ان اصل الي ناسي..ان أعبر عنهم و عن معاناتهم كجزء من معاناة الشعب المصري.ان اعيد النوبه الي مكانها في الجغرافيا كما في التاريخ كما قلت،ان يعود المجتمع النوبي باصالته و زخمه الي مواقعه القديمه حول توشكي و باقي القري عن النيل مره اخري ليكون أكثر قدره علي إثراء الحياه المصريه  ويواصل معها العطاء الانساني. و العمل الفني فعل في الواقع يتحقق بالقوه او بالوجود, ولولا الطابور الطويل من المبدعين و المفطرين العظام الذين قرأتهم فصاغوا وجداني و تكويني و اثروا طاقتي الروحيه فأعادوا ولادتي من جديد لما خرجت كتاباتي للوجود.

الاثنين، 27 فبراير 2012

حضرة الناظر...المعتقل خليل قــاســم


هذه المقاله تم نشرها بقلمي في مجلة الشمندوره"مجلة جمعية قتـه" العدد الـسادس عشر في تاريخ يوليو2011
...................................

يحكي الكاتب "صلاح حافظ"عن يوم وصوله مع رفاقه معتقل المحاريق في الصحراء الغربيه ، ففي هذا اليوم صدر بالمصادفه قرار حكومي يقضي بفصل اي موظف في الدوله لايعرف القراءه و الكتابه و كان 90% من السجانين لايجيدون القراءه و الكتابه فقرر المعتقلين و ببساطه تأسيس مدرسه لمحو الأميه و كان المسئول عنها أو حضرة الناظر كما كان يناديه بها السجانون هو المناضل العظيم و الاديب "محمد خليل قاسم" ....لم يكن "حضرة الناظر مجرد لقب بين الناس فقط بل كان لقب رسمي فأمتحانات السجانين كانت تجري كل ثلاثة أشهر تحت إشراف ظباط السجن و يتم توقيع النتائج بإسم حضرة الناظر خليل قاسم، أي إنه كان لقب و وظيفه تعترف بها الدوله التي تعتقل قاسم و رفاقه في سجونها و تعذبهم فيها.
كان قاسم شابا يعاني من الفقر و القهر الذي تعانيه مصر باكلمها في فتره نهاية التلاتينات و بداية الاربعينات تحت حكم الملك وعصابته وتحت الاحتلال الانجليزي والحرب التي دمرت نصف الكره الارضيه ،و كشباب كثيرين غيره حاول ان يفهم ان يستوعب ان يعمل علي تغير الاوضاع القائمه فبدا يقرأ و يقرأ و يبحث عمن يجيبه فانضم في البدايه الي "جماعة الاخوان المسلمين" في مصر الجديده و لكن بعد فتره تركهم غير قانعا بتلك الافكار و المبادئ و استكمل بحثه حتي انضم الي (ح.م) او الحركه المصريه للتحرر الوطني وهي مجموعه شيوعيه كانت في قمة نشاطها في هذا الوقت و كان قاسم هو احد اهم كوادرها و كان مسئول القسم النوبي مع عبده دهب و زكي مراد رفيق نضاله و اشعلوا معا الانديه والجمعيات النوبيه وحولوها من دار مناسبات إلي مقر لكل الانشطه الثقافيه و السياسيه و الفنيه التي اجتذبت العشرات و المئات من الشباب النوبي و ساعدت في نشر الافكار الاشتراكيه داخل المجتمع النوبي الذي كان متقبلها الي اقصي درجه في هذه اللحظه بعد ان اغرق البشوات اراضي النوبه و خدعوا النوبين بتعويضات جائره و زائفه....و داخل حركة(ح.م) و التي تحولت بعد ذلك الي (حدتـو) الحركه الديمقراطيه للتحرر الوطني لعب قاسم و رفاقه دورا سياسيا عظيما فأسسوا القسم النوبي و وقفوا سدا منيعا امام محاولات فصل النوبه عن مصر و ضمها للسودان التي لعبها حزب الامه السوداني مدعوما من الانجليز في هذا الوقت بل و شارك فيها بعض رؤساء الجمعيات النوبيه ايضا و خاضوا حروبا ضد دعاة الانفصال و القوا المحاضرات و اطلقوا جريدة "أم درمان" التي اغلقها بعد ذلك صدقي باشا عام1946 عندما بدأ الهجمه علي الشيوعين و لم يكتفي الشاب قاسم بهذا الدور فقط بل كان احد المسئولين في قسم الاحياء في الحركه و هو القسم المسئول عن النشاط الجغرافي وسط الاحياء .
و في عام 1948 صدر الحكم علي قاسم بالسجن 5 سنوات في قضايا الشيوعيه و لم يخرج من السجن الا في العام 1953 اي بعد ثورة يوليو و لكنه سرعان ماعاد الي السجن مره اخري عندما بدا ظباط يوليو الانقلاب علي الديمقراطيه و اصطدموا في البدايه بالشيوعين و صدر حكم ضده بالسجن 8 سنوات و لكن مع انتهاء تلك المده في عام 1961 لم يخرج قاسم بل تحول الي الاعتقال مع زملاءه ليخرجوا جميعا عام 1964 .
بعد خروجه من السجن حاول قاسم العوده للحياه الطبيعيه و عمل مترجما في وكالة انباء المانيا الديمقراطيه و عمل علي ترجمة بعض الكتب و منها "حركة التحرر الوطني في شرق افريقيا" و صدر له كتاب "الخاله عيشه" ،و تقدم لخطبة فتاه نوبيه و بدات الاستعدادت للزواج و لكن وافته المنيه و رحل  في 10/6/1968.
كان خليل قاسم شاعرا و أديبا و مثقفا ثوريا و مناضلا عظيما كتب بدمه و عرقه تاريخ نضالي طويل ضد القمع و الدكتاتوريه و النظام الراسمالي الذي اذاق فقراء مصر و فلاحيها الويلات و سرق ارضها و ناضل ضد الملك و رجاله و ضد حكومه العسكر بعد ذلك محبا لوطنه و شعبه.....مــات فقيرا لايملك شيئا ولكنه ترك تراثا لايقدر بثمن جزءا منه هو روايته العبقريه الشمندوره.